هل قررت واشنطن العودة الى الشرق الأوسط؟ (2/2)

زياد سامي عيتاني

إقرأ الجزء الأول: هل قرّرت واشنطن العودة الى الشرق الأوسط؟ (2/1)

تزامن وصول الغواصة الأميركية “يو إس إس فلوريدا” إلى الشرق الأوسط، مع التصعيد في حرب الظل الاسرائيلية مع إيران والتحولات “الجيوسياسية” الكبرى في الشرق الأوسط، بفعل اندفاعة روسيا والصين حياله، بحيث رعت الأخيرة الاتفاق السعودي – الايراني، فضلاً عن إعلانها الاستعداد لتقديم مبادرة لوقف الحرب الروسية على أوكرانيا، والأخطر من ذلك على المصالح الأميركية، (منها ما هو ذو صلة بالمنطقة)، زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى بكين، ولقائه الرئيس شي جين بينغ، واعلانه منها أنه “لا يجب على أوروبا أن تبقى في حالة تبعية للولايات المتحدة”.

تسارعت التطورات على المسرح الاقليمي، والتي من شأنها أن تحدّ من النفوذ الأميركي على صعيد الشرق الأوسط، خصوصاً مع “رزمة” المشكلات الداخلية والخارجية التي تلاحق إدارة الرئيس جو بايدن، لا سيما مع حلفائها التاريخيين في المنطقة، حيث طفح على السطح الخلاف الأميركي – السعودي، والخلاف الأميركي – الاسرائيلي، من دون أن نسقط من الحسبان، فتور علاقة الادارة الأميركية مع عدد من العواصم الأوروبية، وكلّ هذه الخلافات مرشحة للتزايد، مع التسريبات الأخيرة التي قيل إنها تمسّ الأمن القومي الأميركي، وتفضح الكثير عن العلاقات الأميركية مع الحلفاء.

وسط هذا المشهد “الشرق أوسطي”، يتزامن وصول الغواصة مع تزايد التوتر في العلاقات الأميركية – الايرانية، بسبب حالة اللايقين التي تسود العلاقات بين الطرفين، وعدم قدرتهما على التوصّل الى صيغة لاحياء الاتفاق النووي المجمّد منذ العام 2018. وهذا ما دفع القادة العسكريين الأميركيين الى التحذير من توسيع قدرات إيران الصاروخية وأنشطة تخصيب اليورانيوم، والتهديد الخطير الذي يمثّله ذلك لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها.

ففي الشهر الماضي، قصفت الولايات المتحدة مواقع لميليشيات إيرانية في سوريا، رداً على مقتل جندي أميركي وإصابة 12 آخرين في هجوم على قاعدة أميركية هناك. وسبق ذلك، إعلان واشنطن في نهاية آذار الماضي، تمديد مهمة المجموعة الهجومية المرافقة لحاملة الطائرات “جورج إتش دبليو بوش”، والتي تضمّ أكثر من 5 آلاف جندي، لتوفير مزيد من الخيارات أمام البيت الأبيض بعد هجمات سوريا. وكشف العقيد جو بوتشينو، المتحدث باسم القيادة المركزية للجيش الأميركي، أنّ هناك نشراً سريعاً مقرراً لسرب طائرات هجومية من طراز “إيه-10” في المنطقة.

وكان الرئيس بايدن قد حذّر إيران، قبل أسبوعين، من أنّ الولايات المتحدة سترد بقوة لحماية الأميركيين (في المنطقة). وقال البيت الأبيض إن هذه الحوادث لن تؤدي إلى سحب القوات الأميركية المنتشرة في سوريا منذ نحو 8 سنوات ضمن التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن لمحاربة تنظيم الدولة. الولايات المتحدة لديها حوالي 900 جندي في شمال شرق سوريا، حيث تسيطر على المنطقة ميليشيا متحالفة، يقودها الأكراد، وتشكّل الجزء الأكبر من القوة البرية في الحملة التي تقودها الولايات المتحدة (لهزيمة الجماعة الارهابية المعروفة باسم الدولة الإسلامية).

في المقابل، تتهم إيران الولايات المتحدة بالترويج للحرب مع وصول غواصة “يو إس إس فلوريدا” إلى الشرق الأوسط، ووصفت نشرها غواصة نووية بأنّه “مثير للحرب”. فقد اتهم المتحدث باسم وزارة الخارجية الايرانية ناصر كنعاني الولايات المتحدة بـ “إثارة الحروب ونشر عدم الاستقرار والصراع في منطقة غرب آسيا”. وقال: “إن الانتشار كان علامة على صراع واشنطن للتغطية على تراجعها في العالم، حيث من المرجح أن تشكّل المعادلات الاقليمية الجديدة نظاماً جديداً، وتلغي الحاجة إلى قوات عسكرية من خارج المنطقة”.

إن حجم الاستعراض الحالي يُشير إلى أن لدى واشنطن معلومات عن تهديد جدي سواء من إيران أو احدى الجماعات المسلحة التي تدعمها، ضد المصالح الأميركية أو الاسرائيلية، بحيث تشهد الدولتان توترات غير مسبوقة مع إيران، خصوصاً بعد مقتل ضابطين من “الحرس الثوري” في قصف يُعتقد أنه إسرائيلي.

وبالتالي يبدو أنّ الرسالة التي تسعى واشنطن الى إرسالها، بأنّها تحتفظ بقوة ردّ ضاربة لمواجهة أيّ تصعيد عسكري سواء من إيران أو إحدى جماعاتها، بحيث توفّر الغواصة إلى جانب حاملة الطائرات قوة نارية من البحر، قادرة على استهداف الأصول الايرانية في أيّ بقعة من الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه تُضيق مساحة الردّ الايراني على الهجوم الأميركي نظراً الى إنطلاقه من البحر، وليس من قواعد عسكرية أميركية تستضيفها دول في المنطقة، ما يرفع من الحرج والكُلفة على طهران من الردّ عبر إستهداف دولة مجاورة.

من جهتها، كشفت إسرائيل عن الهدف الفوري لارسال غواصة نووية إلى الشرق الأوسط، وذلك على لسان صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، بأنّ قرار البحرية الأميركية بإرسال غواصة تعمل بصواريخ موجهة تعمل بالطاقة النووية إلى الخليج العربي، كان خطوة محسوبة، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة أجرت خلال الأسبوع الماضي تقويماً مستمراً للوضع في ما يتعلق بإيران وشبكتها من الميليشيات (الشيعية) في جميع أنحاء المنطقة.

وقالت الصحيفة في تقرير لها، إنّ الهدف الفوري لإرسال غواصة تحمل حمولة 154 صاروخاً من طراز “توماهوك كروز” هو تعزيز الوجود البحري الأميركي في الخليج، من خلال إضافة قوة نيران كبيرة على عتبة إيران، لافتة إلى أنّ ذلك يعتبر إشارة واضحة لطهران بأنّ الولايات المتحدة مستعدة للعمل من أجل حماية مصالحها في المنطقة.

وأوضحت الصحيفة أنّ خطوة واشنطن لها أيضاً بُعد إستراتيجي، وهو أنّها قلقة للغاية بشأن المحور الناشئ في المنطقة بين إيران وروسيا والصين والمملكة العربية السعودية، وتعتبر إجتماع وزيري خارجية إيران والسعودية في بكين، والتصريحات بشأن تجديد العلاقات الديبلوماسية وفتح السفارات المشترك، إنتصاراً للصين على حسابها في المنطقة.

وأشارت إلى أن الصين إستفادت من العداء الإيراني تجاه الولايات المتحدة وإستمرار خيبة الأمل والغضب من جانب الرياض تجاه واشنطن والرئيس جو بايدن، فخرجت بإنجاز كبير، تسبّب بهذه الحزمة من التوترات. وأكدت أن ثقة طهران المتزايدة بالنفس محسوسة في المنطقة بأسرها، وغني عن البيان أن هذه التطورات لها تداعيات عميقة على إسرائيل، التي شهدت تصاعداً ملحوظاً في النشاط على حدودها الشمالية، بما في ذلك أكبر وابل من الصواريخ من لبنان منذ العام 2006، وإطلاق صواريخ من سوريا أيضاً.

كما سلّط التقرير الضوء على رسالة الردّ العسكري الاسرائيلي على إطلاق الصواريخ. وذكر أنّ “الهجمات الإسرائيلية على لبنان وقطاع غزة لم تكن ردّ فعل على الهجمات منهما، بل كانت رسالة إلى إيران”.

بينما رحبت الولايات المتحدة رسمياً بـ “التأثير المهدئ” للتقارب السعودي -الايراني على المنطقة، فإنها فوجئت بقرار الرياض إدراج الصين كضامن، فضلاً عن إحتضانها لبشار الأسد. ومما زاد من مخاوفها قرار المملكة العربية السعودية بالانضمام إلى منظمة “شنغهاي” للتعاون “كشريك في الحوار”، (وهي كتلة أمنية ودفاعية تقودها الصين وتضم في عضويتها إيران وروسيا).

قالت سانام وكيل، مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال افريقيا في مركز أبحاث “تشاتام هاوس”، إنه ليس هناك أي تناقض بين إيران التي تسعى إلى إصلاح العلاقات مع المملكة العربية السعودية وقوى الخليج العربية الأخرى، بينما تصعّد في الوقت نفسه حربها السرية ضد الولايات المتحدة وإسرائيل! أضافت: “هذا صحيح من قواعد اللعبة الايرانية”.

وأشارت الى أن هناك “الكثير من الغطرسة” في طهران في الوقت الحالي، بحيث يشعر العديد من عناصر النظام بالانتصار بأنهم لم يقاوموا سياسة “التطويق والضغط الأقصى” التي تتبعها الولايات المتحدة فحسب، بل قاموا في الواقع بدق إسفين بين الولايات المتحدة وحليفها العربي الرئيس السعودية. وقالت: “إنه إثبات لهدفهم المستمر منذ عقود لإخراج الولايات المتحدة من المنطقة”.

يتضح من خلال عرض شريط التطورات المتسارعة في المنطقة، أن مقاربة صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” أكثر وضوحاً من كل البيانات الأميركية، لجهة الأهداف الحقيقية للاندفاعة الأميركية المتجددة في الشرق الأوسط، حيث أن إعادة انتشار القوات الأميركية في بحره، يأتي بعدما لاحت في الأفق ملامح تأسيس حلف (محور) جديد بين دول الاقليم يضم كلاً من السعودية وتركيا وإيران وسوريا، (ومن الممكن مصر)، مع الدخول الديبلوماسي والاقتصادي للصين إلى المنطقة من بابها الواسع، ما يشكل خطراً خقيقياً على المصالح الأميركية والاسرائيلية، إذا ما أضيفت إليها تداعيات الحرب الرويسة على أوكرانيا.

إختصاراً، نعيش تحولات خطيرة ومقلقة في الشرق الأوسط، قد تؤدي إلى خارطة “جيوسياسية” جديدة، والتي غالباً ما تكون على “صفيح ساخن”! فهل مصالح الدول المتوحشة، تنذر بحرب عالمية “مصغرة” على مسرح المنطقة؟

شارك المقال