شاهدت بدقة المقابلة الأخيرة لزعيم تيار “المردة” سليمان فرنجية في قناة “الجديد”، وكان لافتاً تمكن فرنجية من أدواته، إذ نجح في كسب تعاطف شريحة من المشاهدين أو على الأقل تحييدها عاطفياً، وكانت رسائله إلى الناخبين المسلمين ذكية بالتأكيد على احترام الدستور والمؤسسات واحترام مقام رئيس الحكومة والموافقة على المداورة الكاملة في الوزارات، وأبدى فهماً ناضجاً – إلى حد كبير – لدور رئيس الجمهورية في النظام السياسي، وكان حديثه الموجه إلى دول الخليج لطيفاً.
لم ينجح فرنجية في مقابلة “الجديد” لولا المحاور جورج صليبي، الذي بدا معه أكثر ليونة وأقل عدوانية على عكس أدائه مع زعيم حزب “القوات اللبنانية” د. سمير جعجع قبل حلقة فرنجية بأيام. ومرونة صليبي جاءت في سياق حملة ملحوظة في وسائل الاعلام اللبنانية مفادها: لقد نضجت التسوية الرئاسية ووافقت السعودية على انتخاب فرنجية، لكن فرنجية نفسه نسف هذه الحرب النفسية حين قال بأنه يستطيع تحقيق الفوز بالنصف زائد واحد (بغض النظر إن كان هذا التصور صحيحاً أم لا) لكنه لا يريد أن يكون رئيس مواجهة واستفزاز للسعودية.
إن مقابلة فرنجية في قناة “الجديد” أكدت المؤكد بأهليته الشخصية لرئاسة الجمهورية قياساً بالرئيس السابق ميشال عون (وصهره جبران باسيل حليف الثنائي الشيعي الأهم والطامح الى قصر بعبدا)، لكن مشكلة فرنجية في السباق الرئاسي هذه الأيام ليست شخصية أبداً.
لم يكن ترشيح ميليشيا “حزب الله” للجنرال ميشال عون بعد انتهاء ولاية ميشال سليمان اعتباطياً، ولم يكن من باب رد الجميل لمواقف عون مع الميليشيا الإرهابية. لقد شاهدنا الهدف السياسي من ترشيح عون في عهد جهنم، أصر “حزب الله” على رئاسة ميشال عون بهدف تمكين الدويلة من ابتلاع الدولة وتأجيج السعار الطائفي وتهميش السنة وتهشيمهم… ونجح في ذلك، ويبدو أن هدفه من ترشيح فرنجية سيكون هضم الدولة تماماً، عبر نسف التحقيق في تفجير المرفأ وأيرنة القطاع المصرفي، والأهم رعاية تحالف الميليشيات الإيرانية في لبنان (“حزب الله” – “حماس” وأخواتها في المخيمات الفلسطينية).
إن نوايا فرنجية إزاء بلاده ليست محل شك وتشكيك على عكس قدرته على إعاقة مخططات الحزب المظلمة إزاء لبنان، وهنا يجدر التذكير بحادثتين: الأولى، حين قام الرئيس سعد الحريري بترشيح فرنجية لرئاسة الجمهورية أواخر 2015 لم تجرؤ كتلة فرنجية على كسر قرار “حزب الله” بمقاطعة انتخابات الرئاسة لانتخاب زعيمها مع أن ذلك كان ممكناً بدليل نزولها إلى آخر جلسة سبقت تبني الحريري لترشيح ميشال عون رئيساً في 2016. أما الثانية، فقد شهدها اللبنانيون قبل أسابيع حين صرح أغلب لبنان (بما في ذلك جبران باسيل) مستنكراً إطلاق ميليشيا “حماس” للصواريخ على المستوطنات الاسرائيلية باستثناء فرنجية، وكأن الضمانات التي قدمها قبلها لباريس عن الاستقلالية مجرد حبر على ورق، وكأن الحديث عن تحالف الميليشيات المتأيرنة في لبنان يقوّض حظوظه الرئاسية وربما يقوّض عهده إذا تحقق وبدأ. وكان غريباً حقاً أن لا يسأل جورج صليبي ضيفه عن هذا الموضوع مع أن النتيجة النهائية لهذا التحالف تقويض الدولة اللبنانية واستهداف دول الاعتدال العربي عاجلاً أو آجلاً!
إن مفتاح موقف الثنائي الشيعي المسلح من ترشيح فرنجية، التأكيد لعموم اللبنانيين أن الثنائي هو موزع الغنائم في لبنان، وأن التحالف معه وخدمة مشروعه هو المعبر الوحيد إلى النفوذ والسلطة، وبالتالي حتى إذا اضطر الثنائي إلى التخلي عن ترشيح فرنجية، فلا بد أن يكون رئيس التسوية من اقتراحه هو (أي الثنائي). وأشارت أوساط إقليمية إلى أسماء مرشحين يغلب الظن أنها الخيارات الحقيقية أو البديلة للثنائي المسلح، كالوزيرين السابقين زياد بارود وناجي البستاني، وكأن الحزب الإلهي يريد رئيساً إن لم يرعَ مشروعه يعجز عن تعطيله.
حين تصادمت الميليشيا المتأيرنة مع العرب اختار فرنجية الميليشيات، وهذا مفهوم بحكم تموضعه السياسي، منذ 2005 يصعب بشدة استذكار موقف لفرنجية استقل فيه عن “حزب الله” على مستوى الخيارات الوطنية (باستثناء بعض المحطات في العلاقة مع “التيار الوطني الحر”)، وحين يقول انه سيتغير كرئيس ربما لا يمكن تكذيبه بحكم مصداقيته، وبحكم أنه من يحتاج العرب في لبنان وليس العرب من يحتاجونه، لكن التساؤل عن عجز فرنجية حين تتصادم الميليشيا المتأيرنة مع مصالح اللبنانيين وحقوقهم مشروع نظراً الى اعتراض كل الأحزاب المسيحية على رئاسته فضلاً عن التراجع الشعبي لزعامته – بما في ذلك منطقته زغرتا – التي خسرت في انتخابات 2022 نحو 26 ألف صوت قياساً الى انتخابات 2018. والمثل الواضح هنا هو تفجير المرفأ، لم يسأل صليبي فرنجية عن التحقيق فيه خصوصاً وأنه موضوع خلافي بين الحزب المسلح وعموم اللبنانيين، كما أن أسماء بعض معاوني فرنجية ظهرت في خانة الاتهام حتى لو كان الاتهام لا يعني الإدانة إلا بفصل القضاء. هل يعد فرنجية أهالي ضحايا تفجير المرفأ بالسعي إلى تحقيق العدالة للضحايا وتحديد الجناة والمقصرين حتى لو كانوا من حزبه أو من فريقه السياسي أو من حلفاء صديقه بشار الأسد ومحاسبتهم تحت قبة القضاء؟
إن كل الإيجابية التي ظهرت في مقابلة فرنجية نسفتها صراحته حين تعهد بإبقاء الثلث المعطل لأقلية 8 آذار في الحكومة. إن هذا التصريح ألغى الجانب المشرق في وعود فرنجية وبرنامجه الرئاسي – في عيون اللبنانيين على الأقل – وأهمها المداورة في الوزارات، فالتعهد بالثلث المعطل يعني تكريس الأعراف والبدع التي فرغت الدستور من مضمونه وفرغت العملية الديموقراطية من غاياتها، والأخطر أنه يعطي رسالة بأن حلفاء فرنجية – وليس بالضروري هو – يضمرون الانقلاب مجدداً على التسوية الرئاسية بعد التمكن من قصر بعبدا، وحينها لن يكون في يد الرئيس المنتخب – بحكم ظروفه السياسية – حول ولا قوة مهما كان صادق الوعد وحسن النية، فيصبح عهده كبيت الرمل الذي تمضغه أضعف الأمواج.
محاور كثيرة لم يناقشها جورج صليبي مع ضيفه ربما لضيق الوقت، أهمها: ماذا لو لم تجد ضماناته أو وعوده الرئاسية صدى لدى اللقاء الخماسي في باريس؟ وهل ينسحب من السباق الرئاسي إذا اتفق خصومه على مرشح يستطيع الفوز بـ 65 صوتاً أو جمع أصواتاً تفوق الأصوات التي جمعها فرنجية؟ لماذا يبدو أنه يصب كل جهده لإقناع لقاء باريس بدلاً من إقناع الناخبين في مجلس النواب؟ لماذا تجب مكافأة فريقه السياسي على التعطيل وعلى انتهاك الدستور وعلى التدمير الممنهج للدولة بداية من 2005 على الأقل وعلى فرض ميشال عون رئيساً في عهد جديد؟
في مطلع سنة 2016، رشح حزب “القوات اللبنانية” بقيادة د. سمير جعجع الجنرال ميشال عون لرئاسة الجمهورية، وكان الرئيس سعد الحريري لا يزال متمسكاً بترشيح فرنجية، حينها أطل الأمين العام لميليشيا “حزب الله” السيد حسن نصر الله في كلمة جماهيرية قال فيها بالنص: “ترشيح الحريري لحليفنا فرنجية، وترشيح القوات لحليفنا عون، يعني أن رئاسة الجمهورية أصبحت من نصيب 8 آذار”. ليكون السؤالان الكبيران: هل انتخاب رئيس الجمهورية المسيحي الذي كان شأناً وطنياً وزعم البعض أنه يجب أن يكون شأناً مسيحياً أصبح قراراً شيعياً؟ وهل يكون انتخاب فرنجية في 2023 مقدمة لانتخاب جبران باسيل في 2029؟ خصوصاً بعد أن سرّبت أوساط “حزب الله” قبل فترة استعداد الحزب – في إلغاء مطلق للدستور ولقيم الجمهورية – لتقديم وعد مكتوب لجبران باسيل بدعمه رئاسياً بعد 6 سنوات إن قام بتأييد فرنجية في هذه الانتخابات!