عبد اللهيان طمأن حلفاءه… ماذا عن بخاري؟

أنطوني جعجع

ماذا فعل وزير الخارحية الايرانية حسين أمير عبد اللهيان في بيروت؟ وماذا يمكن أن يفعل السفير السعودي وليد بخاري عندما يحط في بيروت حاملاً في ما يبدو آخر ما قررته الرياض في موضوع الرئاسة اللبنانية؟

في السؤال الأول، حاول الوزير الايراني في العلن على الأقل أن يلعب دور “العراب المنفتح” لا دور “العراب الحصري”، ساعياً الى أربعة أمور أساسية: الأول تعويم حسن نصر الله الذي تجاهله الايرانيون في عملية المصالحة مع السعودية، والثاني الايحاء بأن ايران لا تحتل لبنان ولا تملك فيه القرار الأوحد، والثالث الفصل بين المصالحة في الخليج والصراع المسلح مع اسرائيل، والرابع الافساح في المجال أمام الرياض لحسم أمرها في موضوع الرئاسة سواء قبولاً أو اعتراضاً أو حياداً بعيداً من شعار “فلان أو الفراغ”.

في السؤال الثاني، الواضح أن السعودية، وبعد المصالحات مع كل من ايران وسوريا، لم تعد قادرة على مواصلة سياسة الحياد والاعتكاف في لبنان، وأن الوقت بات يتطلب منها العودة شريكاً كاملاً أو وازناً في معالجة الكثير من الملفات العالقة والمتشابكة في المنطقة.

وسواء نجح عبد اللهيان أو فشل في مهمته العلنية، أي تليين المواقف في محاولة لاستيعاب المعارضة أو بعض منها على الأقل، وتشديدها بغية ترهيب اسرائيل انطلاقاً من بوابتها الشمالية، فماذا يمكن أن تكون مهمة بخاري لدى حلفائه اللبنانيين وتحديداً لدى كل من وليد جنبلاط وسمير جعجع؟

في غياب أي معلومات دقيقة، يمكن للمراقبين أن يستشفوا من مواقف الرجلين ما يمكن أن يضيء على المنحى السعودي الجديد، لافتين الى أن سحب الأسماء الثلاثة أي صلاح حنين وجهاد أزعور وجوزيف عون من لائحة جنبلاط، يوحي بأن الأخير لم يرصد على الأرجح أي تعاطف أو حماسة سعودية حيال أي منهم، وأن ما كان قبل المصالحات الأخيرة لم يعد على حاله بعدها، مبدياً ميلاً ضمنياً الى السير في ما يقرره ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ولو على مضض، مفضّلاً أن يكون شريكاً بالحد الأدنى بدل أن يكون مستبعداً بالحد الأقصى.

وما ينطبق على جنبلاط قد لا ينطبق على جعجع الذي يتمسك برهانه على السعوديين “المتمسكين بالمواصفات الرئاسية”، مصراً على اعتبار المصالحة السعودية – الايرانية شأناً ثنائياً لا يغيّر الكثير من أحوال المنطقة.

ورأى المراقبون أنفسهم، أن الاطلالة الأخيرة لقائد “القوات اللبنانية”، كانت محاولة استباقية لفرملة أي صفقة قد تأتي على حسابه بعدما تلقى أجواء لا تتماهى مع خريطة الطريق التي رسمها مع الرياض قبل المصالحات، مطلقاً مواقف متشنجة تردد أن صداها يخضع لمراجعات جدية في دوائر القرار السعودية والفرنسية معاً.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل استشف جعجع تحولاً يوحي بأن السعودية قد تحسم أمرها فعلاً وتقرر السير مع الفرنسيين والصينيبن والروس والايرانيين في دعم سليمان فرنجية، في مقابل تجميد الجبهة اليمنية، وضبط الحدود السورية التي تتسلل منها قوافل المخدرات نحو الخليج؟

وهل استشف أيضاً أن السعودية قد تميل الى مراضاة الايرانيين في لبنان لاعتقادها أن ذلك يشكل عاملاً “أكثر أمانا” من التحالف مع معارضة لبنانية مفككة ومتباعدة يقودها زعماء يتفقون على إسقاط سليمان فرنجية ولا يجمعون على من يمكن أن يكون بديلاً للمرشح ميشال معوض؟

مصدر قريب من معراب كشف أن جعجع أراد من اطلالته الاستباقية إفهام من يعنيه الأمر، أنه لا يستطيع القبول بمرشح ممانع آخر على غرار ما فعل عندما تبنى ترشيح ميشال عون، وأن كل رصيده السياسي والشعبي بات على المحك، ملمحاً الى أن “رهانه” على الرياض، وهو الرهان الخارجي الوحيد الذي يملكه حتى الآن، بات قابلاً للتكهنات والتساؤلات من هنا وهناك.

وأضاف أن جعجع يدرك هذه المرة أن وصول فرنجية الى قصر بعبدا سيكون أكثر خطراً على موقعه السياسي والشعبي من وصول ميشال عون، ليس في لبنان بل في بعض معاقله الأساسية، مشيراً الى أن الرجل يعرف ضمناً أنه يخوض ربما أقسى معاركه السياسية وأخطرها على الاطلاق، ويدرك أن خصومه، وفي مقدمهم جبران باسيل قد يتكتلون في آخر لحظة لتوجيه ضربة قاضية الى مصداقيته ورهاناته وموقعه المسيحي والوطني.

وأشار المصدر في هذا الصدد الى أن ما يجري هو كباش مباشر مع “حزب الله” لا يحتمل أي غلبة لأي من الطرفين، مؤكداً أن قائد “القوات اللبنانية” لن يكرر السير في أي مخارج أو خيارات تشبه السير في انتخاب ميشال عون رئيساً والقانون الانتخابي الأخير، ولن يترك أي أمر لنوايا الآخرين وتعهداتهم اللفظية أو المكتوبة.

وأوضح أن الرسالة وصلت الى الرياض التي تقف اليوم أمام خيارين: اما القبول بمرشح الممانعة وخسارة قسم كبير من المسيحيين، واما القبول بمرشح توافقي واستيعاب المسلمين والمسيحيين معاً.

وأكثر من ذلك، يتساءل المراقبون هل يمكن أن يأخذ السعوديون من ايران وسوريا ما لا يأخذه خامنئي وبشار الأسد منهم في مكان آخر، أو على الأقل ما يمكن أن يشكل توازناً في عملية “الأخذ والعطاء” بين فريقين يقفان على مفترق طرق في عالم متشابك ومتشنج يمتد من الشرق الأوسط مروراً بالحرب الأوكرانية وصولاً الى كوريا الشمالية وبحر الصين؟

الجواب ليس محصوراً بالسعوديين والايرانيين وحدهم إذ أن هناك ثمة حقيقة أخرى يحاول البعض اخفاءها أو تجاهلها، وهي دور واشنطن التي بدأت تشعر بأن البساط يسحب من تحت قدميها، وأن ما جرى في المنطقة ليس أمراً عابراً يمكن التعامل معه باستخفاف، خصوصاً في وقت يشعر الأميركيون بأن بلادهم تفقد حلفاء تاريخيين، وتتعرض لحصار عسكري على أكثر من جبهة يهدف الى الهائها في مكان واستنزافها في مكان آخر.

وثمة حقيقة أخرى، لا يمكن المرور بها سريعاً، وهي مخاوف اسرائيل التي بدأت تشعر بأن الانتشار الذي حققته في الخليج قبل سنوات على حدود ايران، انقلب الى انتشار ايراني على حدودها مع كل من غزة وسوريا ولبنان، وهو أمر، يرى المراقبون الاستراتيجيون أنه تحول الى قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، مؤكدين أن ما تواجهه اسرائيل هذه المرة ليس مجرد صواريخ تنطلق من هنا وهناك بل خطر وجود حقيقي لم تشهده منذ تأسيسها في العام ١٩٤٨.

والخطر الوجودي الذي تشعر به اسرائيل لا يختلف كثيراً عن “الخطر الوجودي” الذي يشعر به القسم الأكبر من مسيحيي لبنان نتيجة الانتشار العشوائي للسوريين في مناطقهم واحتمال تحولهم الى قنابل موقوتة غب الطلب.

الواضح أن من يحرك منصات الصواريخ في الجنوب هو من يحرك خلايا اللاجئين، محاولاً بذلك اصابة عصفورين بحجر واحد، عصفور يشل المعارضة ويرهبها ويعطيه قصر بعبدا، وآخر يعطي ايران “قوة الردع” التي يمكن أن تعيد أميركا الى المفاوضات النووية، وتجبر اسرائيل على التفكير ملياً قبل الدخول إلى برنامجها النووي من البوابة العسكرية.

هذا ما ظهر في جعبة عبد اللهيان قبل زيارة الرئيس الايراني الى سوريا قريباً في اطار “توحيد الجبهات”، ويبقى أن نعرف ماذا في جعبة السفير السعودي الذي طالت “غيبته” في وقت لا تبحث بلاده عن “رئيس منشود” في لبنان وحسب، بل تنشغل حتى رأسها بالحرب الأهلية في السودان وتحضيرات القمة العربية في الرياض، فضلاً عن ترتيب الهدنة في اليمن، وترسيخ المصالحات مع ايران وسوريا في منطقة مفخخة تتشابك فيها الجيوش والمصالح وتكثر فيها الكمائن والألغام.

شارك المقال