يكاد لا يمرّ يوم أحد إلا ويرفع البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، الصلوات على نية أن يهدي الله المسؤولين الى كلمة سواء، تحقق مصلحة لبنان، ويدعو في عظاته إلى إنتخاب رئيس للجمهورية في أسرع وقت ممكن لأن عامل الوقت بدأ يضيّق الخناق على رقاب العباد والبلاد، لكن كل تلك العظات لم تلقَ آذاناً صاغية على مدى الأشهر الماضية أي قبل الدخول في مرحلة الشغور حتى بات كثيرون يسألون: على من تقرأ عظاتك يا صاحب الغبطة؟
وبما أن العظات والاتصالات واللقاءات مع الشخصيات من مختلف الأطراف والانتماءات لم تجدِ نفعاً، فعّل البطريرك الراعي حراكه مطلع شهر شباط الماضي بعدما كلّفه رؤساء الطوائف المسيحية الذين التقوا في بكركي، بـ”دعوة النواب المسيحيين إلى اللقاء، وحثهم على المبادرة سوياً، مع النواب المسلمين، وفي أسرع وقت ممكن، لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية”، لكن لم تتجاوب مختلف القوى مع طرح جمع النواب المسيحيين الـ64 في مقر البطريركية.
ثم جرى الحديث عن فكرة جمع القيادات المسيحية في بكركي، لكنها ماتت قبل أن تولد، لعدم تكرار تجربة العام 2014، قبل انتخاب الرئيس ميشال عون، حين تمّ التفاهم على أن يكون رئيس الجمهورية أحد القيادات المسيحية الأربع (ميشال عون وسمير جعجع وسليمان فرنجية وأمين الجميل). وبالتالي، جرت محاولة أخرى، وبمقاربة مختلفة، تجلّت في توكيل راعي أبرشية أنطلياس المارونية المطران أنطوان بو نجم، القيام بزيارات الى القيادات والشخصيات المسيحية في إطار تقريب وجهات النظر من أجل إنجاح الاستحقاق الرئاسي، بتضامن جميع الفرقاء المسيحيين. وبعد زيارات متكررة لهم، لم يصل المطران بو نجم إلى نتيجة إيجابية، ما اضطر البطريرك الراعي، وحفاظاً على ماء وجه بكركي، إلى دعوة النواب الى جلسة صلاة وتأمل، خالية من السياسة في بيت عنيا – حريصا، حضرها 53 نائباً، وتوجه إلى المشاركين بالعديد من الأسئلة، مؤكداً أن “السياسة التي تسعى إلى خلق مساحة شخصيّة، وفئويّة أوسع هي سياسة سيّئة، أمّا تلك التي تسعى إلى وضع أسس لمستقبل الأجيال، فهي سياسة صالحة”.
بعد كل هذه المحاولات التي لم تفضِ الى أي تقارب مسيحي، هل خرج المسيحيون من تحت عباءة البطريرك؟ وهل توقفت بكركي عن مسعاها في إطار تقريب وجهات النظر بين الفرقاء المسيحيين؟ وهل من خطوات لاحقة ربما تكون على المستوى الوطني خصوصاً أن ليس هناك أي بصيص أمل حتى الآن في ملء الشغور قريباً على الرغم من الحراك الداخلي والخارجي؟
أكّد النائب البطريركي العام المطران سمير مظلوم في تصريح لموقع “لبنان الكبير” أن “السياسة بمعظمها ومعظم المهتمين بها، لم تعد لها معنى الخدمة للمجتمع، وتقديم المصلحة العامة على المصالح الفردية والشخصية والفئوية. هناك مفهوم خاطئ لدى معظم السياسيين لدورهم ومسؤوليتهم، وهناك حقد بين بعضهم البعض، حتى أنهم يرفضون اللقاء والتفاهم، وتوحيد الكلمة للوصول الى مخرج يخلص البلد من المحنة. كما أن هناك أسباباً خارجية بحيث أن لبنان مستقل في المبدأ، لكنه في الواقع، لم يعد يتمتع بالاستقلال لأن أبناءه موزعون بالولاء لطوائفهم من جهة، ولدول أجنبية من جهة ثانية”، مشيراً الى أن “البطريرك لا يشعر بغصة وحسب، انما يرى أن خطر الموت يداهم البلد والدولة والمؤسسات والشعب، لكنه لن ييأس ولن يتراجع عن بذل كل الجهود بكل الوسائل المتاحة كي يقرّب السياسيين من بعضهم البعض، ويحثهم على التركيز على مصلحة الوطن، وليضحوا بشيء من مصالحهم الخاصة كي يؤمنوا الحياة الكريمة والحرية لكل أبنائه. البطريرك لن يتوقف في مساعيه على الرغم من عدم تجاوب الأكثرية معه، لأنه اذا اتكلنا على الخارج أياً يكن هذا الخارج كي يخلصنا يعني أن لا خلاص لنا”.
واعتبر الوزير والنائب السابق إيلي ماروني أنه “كان واضحاً أن اللقاء المسيحي لن يصل الى أي نتيجة، لذلك، حوّل البطريرك هذا اللقاء الى رياضة روحية”، لافتاً الى أن “المسيحيين يعتبرون الصرح البطريركي مظلة لهم، لكن حين لا أحد يسمع كلمة البطريرك أو يتجاوب معه بشأن الوحدة المسيحية، تمهيداً للوحدة الوطنية ثم الاتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية، يعني أن القول شيء والفعل شيء آخر، والكل يخرج عن الأصول، وعن هذه المظلة لأن من يعتبر أن بكركي مظلته، يجب أن يستمع اليها، وينفذ توجيهاتها التي تصب في خدمة لبنان”.
ورأى أن “البطريرك الراعي يتحدث انطلاقاً من الدستور، وبالأصول الديموقراطية التي تحافظ على مقومات البلد والدولة، وهم يتحدثون بلغة الحصص والمصالح، وبأسماء الأشخاص الذين يحققون أهدافهم، في الحفاظ على وجودهم السياسي ولو على حساب الوطن والشعب”. وأكد أن “الحفاظ على الوطن والتضحية والعطاء، لا يعرف اليأس، ولا يتوقف عند حدود، والبطريرك مستمر كما البطريركية بدوره الطليعي في خدمة لبنان والحفاظ عليه، وبمساعيه علّ ضمائر من بيدهم الحل والربط، تستيقظ، ويدركون خطورة المرحلة، وإمكان فقدان الوطن، لأنه اذا استمرينا على هذا النحو، فسيكون هناك ترحيل جماعي للبنانيين من لبنان”.
وشدد النائب السابق غسان مخيبر على أن “المسألة ليست مسيحية – مسيحية، المسيحيون مؤثرون فيها، وهو مركز مسيحي انما يعني جميع اللبنانيين. اما الانقسام، فليس على مستوى مذهبي طائفي انما على مستوى سياسي، ولا يقتصر على المسيحيين كما أن مسؤولية انتخاب الرئيس لا تقتصر على المسيحيين، والعرقلة لدى الأحزاب ذات الغالبية المسيحية كما لدى الأحزاب ذات الغالبية الشيعية والسنية والدرزية”.
وقال: “ما يسعى الى أن ينجزه البطريرك الراعي، تذكير جميع اللبنانيين بمبادئ ذات طابع دستوري، وحين يتكلم، يكون يتكلم باسم جميع اللبنانيين وليس باسم المسيحيين الموارنة وحدهم. الخطأ كان تصوير الأمر على أنه ماروني – ماروني ومسيحي – مسيحي. البطريرك يذكر بمبادئ دستورية عامة كلية، وبمبادئ أخلاقية سياسية عامة كلياً. أما انتخاب رئيس الجمهورية، فمرتبط بمصالح سياسية كبيرة، وبمصالح سياسية محلية، واقليمية ودولية. هم يتحدثون بالتقاسم على مستوى الخيارات السياسية. المسألة ليست ايمانية وأخلاقية ودينية، انها مسألة مصالح سياسية، وتوجهات سياسية”.
ولفت الى أن “البطريرك كما كل اللبنانيين يشعر بالحزن لما وصلت اليه الأمور”، داعياً البطريرك الى “أن يلعب دور الوسيط، والجهود يجب ألا تقتصر على المسيحيين انما تطال كل القوى السياسية الأخرى لأن هذه القوى التي قليلاً ما تتناقش مع بعضها البعض في موضوع الانتخابات، تحتاج الى وساطة فاعلة، ويمكن لبكركي أن تلعب هذا الدور، اللهم اذا توسعت الى المستوى الوطني، واذا كانت مبرمجة وثابتة وغير ظرفية، واذا أشركت على المستوى الاقليمي والدولي مساعدة الفاتيكان التي هي دولة تتمتع بعلاقات جيدة ومفيدة على المستوى العالمي. هذا هو الدور الذي أدعو بكركي الى أن تلعبه، وهي مؤهلة أكثر من غيرها لكي تلعب دور الوساطة المؤسساتية، والمستمرة لانجاح المهام”.