بخاري والرئيس… لا “رهينة” ولا “وديعة”!

أنطوني جعجع

لم “يكسرها” السفير السعودي وليد بخاري ولم “يجبرها”، بل وقف في “المنطقة الوسطى” بين خط ممانع يحاول تسويق مرشحه بأي طريقة ممكنة وخط معارض يحاول منع ذلك بأي طريقة ممكنة.

وقد يجد المرء في موقف كهذا أمراً عادياً لا يستوجب التوقف عنده ملياً وطويلاً، لو لم يأتِ هذا الموقف تحديداً من السفير السعودي الذي كان يتحدث قبل سبحة المصالحات الاقليمية الأخيرة، عن “مواصفات” الرئيس لا عن “الرئيس” الذي يختاره النواب اللبنانيون.

وهنا لا بد من السؤال: ماذا دفع المملكة العربية السعودية الى “المنطقة الوسطى” في الملف الرئاسي اللبناني؟ وماذا يمكن أن يبقى من تحالفاتها في لبنان، وهي التحالفات التي يشعر بعض أركانها أنهم باتوا أمام مرحلة جديدة أقل ما يقال فيها ان العامل الخارجي تمنّع أو تراجع لمصلحة المعارك الفردية والذاتية.

الواقع أن جلّ ما تغير في الموقف السعودي هو الحرص على عدم خوض “معركة أحد ضد أحد”، على غرار ما فعل وزير الخارجية الايرانية حسين أمير عبد اللهيان عندما تحاشى التمسك علناً بمرشح “حزب الله”، داعياً التيارات السياسية اللبنانية الى التوافق والحوار.

والواقع أيضاً، أن ايران والسعودية التقيا في منتصف الطريق ومارسا في لبنان “توازن حياد”، يتماهى مع توازن القوى القائم بين الممانعة والمعارضة في مجلس النواب، وأدركا أن أي تحد بينهما لن يصل الا الى مزيد من الفراغ والفوضى، وربما الى الانعكاس سلباً على المصالحات الأخيرة بين الرياض وكل من طهران ودمشق.

ولا يعني هذا أن ايران تخلت عن “حزب الله” وحلفائه أو أن السعودية تخلت عن “القوات اللبنانية” وحلفائها، بل يعني أن الفريقين قررا ليس انهاء الصراع العسكري في اليمن وحسب، بل أيضاً الصراعات السياسية المباشرة وغير المباشرة في المنطقة، والاتفاق في الملف اللبناني على وصول رئيس الى قصر بعبدا لا يكون “تابعاً” ممانعاً في المطلق ولا “متمرداً” معارضاً في المطلق.

وكشف مصدر على تواصل مع السياسة السعودية الجديدة، أن بخاري مارس سياسة “الانعتاق الناعم” مع حلفائه في ما يتعلق بملف الرئاسة، ونقل اليهم القرار السعودي الأخير، وهو الحكم على “الأداء بدل الحكم على النيات”، وعدم الرغبة في تغليب فريق على فريق آخر ما دامت قوى الممانعة والمعارضة تحرص على طمأنة الرياض وتهدئتها، داعياً الى عدم النظر الى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على أنه “رأس الحربة” في معركة لبنانية داخلية.

وقال: ان بخاري أبلغ الى من يهمه الأمر أن بلاده انتقلت من “سياسة المواجهة الى سياسة الاستيعاب”، ومن “سياسة التقوقع” ضمن معسكر عالمي وحيد الى سياسة التفاعل مع العالم الأوسع سواء كان اقليمياً أو دولياً.

أضاف: ان بخاري حرص من جهة أخرى على إفهام المعارضة أن بلاده لا تتخلى عنها بل تتخلى عن أي موقف منحاز قد يزيد الفراغ فراغاً والتوتر توتراً، وأنها ترى فرصة في مجلس النواب تسمح لها بانتخاب رئيس غير صدامي اذا تمكنت من الاتفاق على مرشح لا ينفّر “حزب الله” ولا يوالي أعداءه في المطلق.

وأقرت مصادر قريبة من بخاري، بأن الرياض تلقت من الايرانيين ما يكفي من ضمانات وتطمينات، ومنها أولاً التخلي عن شعار “فرنجية أو الفراغ” لمصلحة شعار “فرنجية أو الحوار”، واقفال الاذاعات الحوثية العاملة في لبنان، إضافة الى تبني خطاب جديد يعلق الصراع مع السعودية ويحصره بالصراع مع اسرائيل في المقابل.

ورأت مصادر قريبة من المعارضة، أن الانتظار الطويل الذي مارسته “القوات اللبنانية” وحلفاؤها لم يكن في حجم الرهانات التي وضعوها على موقف الرياض، معترفة بأنهم لم يقرأوا جيداً انعكاسات التحولات السياسية الجديدة في المنطقة، ولا الاستراتيجية المختلفة التي يقودها “السعوديون الجدد”، أي الفريق الذي يفصل بين العاطفة والمصلحة العليا.

واعترفت المصادر بأن اللقاءات التي عقدها السفير السعودي مع أطراف المعارضة، لم تكن كسابقاتها من “اللقاءات المنسجمة”، وخيّم على بعضها نوع من الفجائية والصدمة، على الرغم من أنها كانت قبل ذلك في جو يوحي بأن الرياض، لن تفتح معركة مع فرنسا وايران والصين وروسيا لاسقاط سليمان فرنجية، لا سيما بعد التطمينات والضمانات التي أطلقها الرجل في اتجاه المملكة، ولن تقف على طرفي نقيض مع الولايات المتحدة التي لم تقل كلمتها بعد في موضوع الرئاسة الأولى في لبنان.

وكشفت أن سمير جعجع وسامي الجميل ووليد جنبلاط حاولوا التحذير من “الضمانات الوهمية” التي يسوقها فرنجية على غرار ما فعل ميشال عون من قبل، وذلك رداً على اعلان السعودية أنها لا تضع “فيتو” على أحد، مشيرة الى أن هذا الموقف صبّ في مصلحة فرنجية أو أي مرشح آخر من طينته، وأن مسألة “المواصفات” لم تعد أساس أي علاقة سعودية مع أي رئيس ما دام لا يعادي المملكة ولا يدخل في أي محور قد يتعرض لأمنها ومصالحها الاستراتيجية.

ولفتت الى أن تحرك بخاري في اتجاه بيروت وبنشعي، يوحي بأن الرياض تحاول تعديل المبادرة الفرنسية، بحيث تسوّق للثنائي فرنجية رئيساً وتمام سلام رئيساً للوزراء بدلاً من الثنائي فرنجية – نواف سلام.

والواقع أن أجواء المعارضة، لا تعكس “ارتياحاً” الى موقف السعودية، بل ظهرت في مظهر من بات وحيداً أو يتيماً في معركة مصيرية تخوضها من دون حليف اقليمي وازن، ولا تعرف كيف تخرج منها سواء غالبة أو مغلوبة.

والواقع أيضاً أن المعارضة التي باتت تتخوف من تصاعد فرص فرنجية، بدأت تتقبل فكرة القتال وحيدة في مكان وشريكة، ولو على مضص مع التيار “التغييري” والنائب جبران باسيل ما داموا يتقاسمون العدو نفسه، أي رئيس تيار “المردة”، وتنتظر في مكان آخر ما يمكن أن تفعله واشنطن لاسقاط الرجل الذي تعتبره امتداداً لعهد ميشال عون وحيثية غارقة حتى عنقها في الولاء لكل من الرئيس بشار الأسد وحسن نصر الله.

وقال مقربون من الحركة الديبلوماسية الأميركية، ان واشنطن تكتفي حتى الآن بمراقبة المسار الرئاسي في لبنان من دون أن تدلي بدلوها فيه، مشيرين الى أن اهتمامها منصب الآن على محاولات استكمال عملية السلام بين دول الخليج واسرائيل، وتطويق المساعي التي تبذلها ايران لتوحيد الجبهات اللبنانية والسورية والفلسطينية في مواجهة الدولة العبرية، اضافة الى اخماد النيران المستعرة في السودان.

وأضافوا أن واشنطن أبلغت من يعنيهم الأمر أنها لن تبارك تعويم الأسد في دمشق ولن تهضم بالتالي وصول فرنجية الى قصر بعبدا لكنها لا تملك القدرة على فرملتهما بما يتعدى سلاح العقوبات، معتبرين أن توحيد المعارضة وحده يمكن أن يفعل ذلك سواء عبر تعطيل النصاب أو عبر الاتفاق على مرشح قادر على تسجيل اختراق في صفوف التغييريين والمستقلين والمترددين.

وانطلاقاً من هذا المشهد، يستمر شد الحبال حتى اشعار آخر، بين “حزب الله” والمعارضة اللذين وجدا نفسيهما، وبقرار اقليمي، مضطرين الى عقد ما يشبه “الحوار القسري” الذي قد يؤدي الى تنازلات موجعة في مكان وضرورية في مكان آخر، وذلك تحت شعار “اذا لم يكن ما نريد فليكن ما يريدون”.

انه التوازن الغريب الذي يدفع السعودية وايران الى تبني “سلام الممكن” في لبنان، ويدفع حلفاءهما الى تبني “عهد جديد” لا يرى فيه “حزب الله” طعنة في الظهر، ولا ترى فيه “القوات اللبنانية” الخارجة من خطيئة “العهد البرتقالي” طعنة ثانية في الخيارات.

ويختم أحد المتتبعين لمسار الخيارات الرئاسية قائلاً: إن موقف السعودية يختصر بجملة واحدة مفيدة: ليس المهم سحب مرشح من هنا وتسمية آخر من هناك، بل المهم الوصول الى رئيس لا يكون “رهينة” في يد طهران ولا “وديعة” في يد الرياض.

شارك المقال