يوماً بعد يوم، ومع تسارع التطورات في المنطقة، من الاتفاق السعودي – الايراني إلى إعادة النظام السوري إلى “الحضن” العربي، مروراً بالانسداد السياسي والشلل الحاصل في لبنان، تتأكد صحة نظرة سعد الحريري وسداد رأيه في كل خطوة كان يخطوها في لبنان منذ العام 2014، عام ربط النزاع مع “حزب الله” وفريق 8 آذار في الداخل، وفك إرتباط هذا النزاع بالتطورات الاقليمية ولو من جانب واحد، الأمر الذي جنَّب لبنان أولاً والطائفة السنية ثانياً الدخول في صراع دموي كالذي كان حاصلاً يومها في كل من سوريا واليمن والعراق، وذلك فيما لو أصغى حينها الى بعض الرؤوس الحامية والفارغة، وبعض النفوس المريضة المليئة بالحقد المذهبي والطائفي، التي إتهمته بالخنوع والانبطاح لمجرد أنه لم يشأ دفع الناس إلى أتون صراع أممي وإقليمي أكبر من لبنان وطاقته على إحتماله، فإختار أهون الشرور وهو التسويات المجحفة بحقه شخصياً قبل غيره، واختار أن يدفع الثمن من رصيده السياسي والشخصي ما دام الوطن سيكون في إعتقاده هو الرابح، بدل أن يدفعه من دماء اللبنانيين عموماً والسُنة خصوصاً.
ولو أن الطرف الآخر في المعادلة الداخلية تعامل معه برجولة وصدق وشرف ووطنية، ولم يلاقِ اليد الممدودة للسلام والقلب المفتوح للتعاون، بخنحر مسموم زرعه في ظهر الوطن وقلبه، لربما كان أمكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه ولم يكن الوضع ليصل إلى ما وصل إليه اليوم، نتيجة سياسات هوجاء مغامِرة تلبية ربما لنزعات نفسية تبحث عن مجد شخصي تتلاقى في الوقت نفسه مع غايات إيديولوجية لدى البعض، أو مصالح سلطوية لدى البعض الآخر، أو أجندة سياسية ينفذها الطرفان خدمة لمصالح مشغليهم في الخارج.
اليوم نرى المنطقة كلها – بلا مبالغة – تحذو حذو سعد الحريري في السعي الى ربط النزاعات والتسوية السياسية، بعد أن تكبدت المنطقة وشعوبها خسائر هائلة في الأرواح والممتلكات ما جعلها تعود عشرات السنين إلى الوراء، وذلك نتيجة تصلب بعض الحكام العرب من المصابين بجنون العظمة، ونزقهم وإجرامهم، وقلة خبرة بعضهم وغرورهم وجموحهم في مواجهة الأحداث، فضلاً عن إحتقار الشعوب وتغييبها عن القرار الذي يمس حاضرها ومستقبلها.
قد لا يختلف إثنان على أن خطوات سعد الحريري لم تكن أحسن المطلوب أو المرجو، لكنها كانت بكل تأكيد أفضل الممكن في ظل وضع مأزوم وموازين قوى مختلة لصالح قوى التشبيح والارهاب، وفي ظل صراع إقليمي ألبسوه لبوس المذهبية، بين دول لها وضعها ومكانتها وإمكاناتها التي لا قِبَل للبنان بمثلها، ولهذا كان سيصبح الحلقة الأضعف في صراع كهذا تحاول كل دولة فيه أن تصون مصالحها وتدافع عنها بكل ما أوتيت من قوة ولو على حساب الآخر.
لقد خاض سعد الحريري معركة الحفاظ على لبنان من منطلق أن “لا ثوابت في السياسة ولا عواطف دائمة بل مصالح، وبأنه عند تغيير الدول مواقفها سواء في الصراع أو الوئام إحفظ رأسك”، فتعرَّض جراء ذلك للتشكيك والتنمر وحتى الحصار من بعض الأقربين والأبعدين في بيئته فضلاً عن الخصوم المتربصين به دوماً، وهو ما أدى إلى إنكشافه أمام خصومه المحليين الذين لم يفوِّتوا الفرصة، فازدادوا تعنتاً وعنجهية أدت في النهاية إلى إحراجه فإخراجه، ما ساهم في سرعة إنهيار البلد ووصوله إلى ما هو عليه اليوم من عجز وفشل، في غياب المبادرات التي لطالما كانت تأتي من جانب الحريري، وهذه حقيقة يعرفها ويلمسها كل متابع لتطورات الأوضاع في السنوات الأخيرة قبل خروجه من الحياة السياسية.
اليوم بعد التطورات الأخيرة في المنطقة، وما حملته من بوادر إنفراج ينم عن “صفقات” سياسية في كل من اليمن وسوريا، وربما لبنان – الذي هو على ما يبدو موضوع على لائحة الانتظار – صفقات أدت الى الاعتراف – حتى الآن على الأقل – للحوثيين بحكم اليمن مقابل وقف الحرب، وعودة النظام السوري إلى الجامعة العربية وإستئناف غالبية الدول العربية على رأسها المملكة العربية السعودية علاقاتها معه من دون أن يبدو في الأفق أي حل يحفظ حقوق الشعب السوري المظلوم، كل ذلك يثبت مدى صحة رأي سعد الحريري وهو رأي ينطبق عليه هنا قول المتنبي “الرأي قبل شجاعة الشجعان”، ما يجعلني أقول بكل ثقة وبرأي شخصي بصفتي مواطناً لبنانياً عادياً، وليس كتحليل سياسي كي لا نُتهَم بالتطبيل الذي ما تعودناه يوماً، أقول مغفورة “خطاياك” يا سعد الحريري، فمهما إرتكبت من أخطاء سياسية على شكل تسويات وتنازلات ومحاصصات يفرضها النظام الطائفي المقيت، يكفيك فخراً أنك لم ترتكب الخطيئة الكبرى وهي أن توغل يدك في دماء اللبنانيين مؤيدين لك أو معارضين، طمعاً في سلطة أو مجد شخصي أو تلبية لأجندة خارجية، مفضلاً الانكفاء والرحيل على الدخول في لعبة الدم، أنت الذي كنت قد أعلنتها في وقت سابق، بأن من يريد لغة الدم فليفتش عن غير سعد رفيق الحريري… قلت وصَدَقْت القول، فأنصفتك الأيام على الرغم من الخسائر الكبيرة التي تكبَّدها الوطن والناس وأنت شخصياً، لكن وكما يقول المثل الشعبي “بالرزق ولا بصحابو”.