ويبقى جوزيف عون!

صلاح تقي الدين

عبثاً الرهان على اتفاق المعارضة المسيحية على اسم مرشح للرئاسة في ظل استبعاد (على الأقل علناً) اسم قائد الجيش العماد جوزيف عون بحجة ضرورة تعديل الدستور وتحديداً المادة 49 منه للسماح بانتخابه، وهو الذي يشكل تقاطعاً مقبولاً لدى الجميع بمن فيهم الثنائي الشيعي المتمسك بترشيح زعيم “المردة” سليمان فرنجية.

لقد كان اسم العماد عون متداولاً منذ فترة غير قصيرة على اعتبار أن نجاحه في قيادة المؤسسة العسكرية في ظل أسوأ أزمة اقتصادية ومعيشية يعيشها لبنان واللبنانيون ومنهم ضباط الجيش اللبناني ورتباؤه وأفراده، ساهم في تعزيز صورته القيادية والكفاءة التي يتمتع بها إلى جانب نظافة الكف، وهي الصفات التي حددتها العديد من القوى السياسية الداخلية وإجماع الدول الاقليمية والدولية المعنية بالشأن الرئاسي.

على الرغم من أن الموقف الطبيعي للسياسيين اللبنانيين عدم ترحيبهم بفكرة أن يتبوأ عسكري المنصب الأول في الجمهورية، فإن التجارب السابقة اختلفت مع عدد من قادة الجيش الذين فرضت التعقيدات الداخلية أو الاقليمية حصولهم على لقب فخامة الرئيس.

فأول قائد للجيش تولى الرئاسة كان الأمير اللواء فؤاد شهاب الذي وصل إلى السلطة بعدما كانت البلاد غارقة في أتون حرب أهلية تسبب بها حلم الرئيس الراحل كميل شمعون بتجديد ولايته الرئاسية، ثم إعلان انضمام لبنان إلى حلف بغداد الذي كان تواجهه معارضة عربية شديدة يقودها الزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر، فكانت تجربة رئاسية اعترف بها ولا يزال كل من عاصرها أنها كانت البداية الحقيقية لوضع خريطة بناء دولة حديثة عادلة وقوية، فكان أن أنشئ في عهد شهاب مجلس الخدمة المدنية وهيئة التفتيش المركزي والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وهي المؤسسات التي لا تزال لغاية اليوم تشكل صمام الأمان الاجتماعي والاداري وإن كانت أعمالها قد تراجعت بفعل التطورات الأليمة التي شهدها لبنان من حروب أهلية وانهيار للعملة الوطنية وسوء ممارسات العهد القوي السابق الذي أوصل لبنان إلى جهنم.

أما قائد الجيش الثاني الذي تولى السلطة فكان الرئيس السابق اميل لحود الذي وصل بفعل التزامه الكامل بسلطة الوصاية السورية بحيث كان الأمين على تنفيذ رغباتها السياسية والأمنية كافة والمشرف الأول على إقامة النظام الأمني اللبناني – السوري المشترك الذي له من الارتكابات ما لا يمكن حصره بسطور، ونتيجة التزامه التام “بالخط” تم التمديد له نصف ولاية رئاسية إضافية جلبت الويلات على لبنان من خلال البدء بحملة الاغتيالات والتصفيات للعديد من القادة السياسيين وأصحاب الرأي المعارضين لسوريا وهيمنتها، وفي مقدمهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

وبعد الفراغ الذي خلفه لحود عند انتهاء ولايته الممدة في العام 2007، اهتزت الأوضاع الأمنية الداخلية بعد خروج الجيش السوري وسيطرة “حزب الله” ميدانياً على الأرض وتحكمه بالمسار السياسي للدولة، فكانت اعتداءات 7 أيار الشهيرة التي استباحت فيها قوات الحزب بيروت وحاولت فاشلة الهجوم على الجبل، وانعقد مؤتمر في العاصمة القطرية الدوحة، نتج عنه تفاهم إقليمي ودولي لانتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.

والحق يقال إن هذا الرجل استطاع من خلال مسيرته العسكرية إنقاذ لبنان من مطبات كثيرة لعل أولها كان تصرفه الحكيم أثناء اندلاع انتفاضة الرابع عشر من آذار حيث وقف على الحياد ولم يدع الأمور تتفلت في الشارع ولا مواجهة المنتفضين على الوجود السوري والغاضبين من اغتيال الحريري، كما إن قيادته معركة تحرير مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين من العناصر الارهابية التي هاجمت الجيش وأوقعت في صفوفه شهداء نتيجة الغدر الذي تميزت به، جعلته يتصرف بحكمة وصلابة في مواجهة محاولات إكمال سيطرة “حزب الله” وهيمنته على الساحة اللبنانية فكانت طاولة الحوار التي دعا إليها في قصر بعبدا وانتهت بتوقيع “إعلان بعبدا”، الذي عاد ممثل الحزب وانقلب عليه معتبراً أنه لا يساوي الحبر الذي صيغ به.

أما الطامة الكبرى فكانت في تعطيل “حزب الله” البلد سنتين وخمسة أشهر للاتيان بقائد سابق للجيش هو العماد ميشال عون إلى الرئاسة، فكان العهد القوي قوياً على أبناء البلد دون سواهم وحفل بالفساد المنقطع النظير والسمسرات اللامتناهية التي كان بطلها الصهر الميمون جبران باسيل والذي كان الحاكم الفعلي للبنان، وهو ما كان قد عبّر عنه رئيس مجلس النواب نبيه بري عندما قال إنه لن ينتخب عون رئيساً لأن البلد لا يستطيع أن يتحمّل رئيسين.

ولأن تجربة عون الفاشلة في الحكم جعلت أكثر المتحمسين لوجود عسكري على رأس السلطة مترددين في تكرار التجربة السابقة، فإن اسم العماد جوزيف عون كان محط أخذ ورد بين القوى السياسية المختلفة وإن اجتمعت كلها على الاشادة بمناقبيته وكفاءته، لكن العقبات التي وضعت أمام احتمال انتخابه تم تجاهلها لدى انتخاب الرئيس سليمان.

فالرئيس بري كان أول من حدد العقبة الدستورية المتمثلة بالمادة 49 من الدستور والمتعلقة بعدم جواز انتخاب رئيس من بين موظفي الفئة الأولى قبل مضي ستة أشهر على استقالته أو إحالته على التقاعد، غير أن بري الذي اشتهر بأرانبه لحل كل العقبات والمطبات، قادر على إخراج أرنب تسهيل انتخاب جوزيف عون رئيساً، لا سيما وأن القوى المسيحية لا يبدو أنها قادرة على الوصول إلى توافق حول اسم مرشح تواجه به سليمان فرنجية، على الرغم من أن باسيل أعلن معارضته انتخاب قائد الجيش رئيساً.

لكن الفترة الأخيرة شهدت تراجعاً في حدة الحملة التي أطلقها باسيل سابقاً في وجه عون أكان ذلك عبر الخلاف الذي أوجده بينه وبين وزير الدفاع موريس سليم، أو من خلال اللقاءات الاعلامية التي كان يكيل خلالها اتهامات غير مستندة إلى أي دليل حسي وملموس ضد عون، ما يطرح احتمال إذعانه لرغبة إقليمية تتمثل بقطر ودولية تقودها الولايات المتحدة لانتخاب عون.

لا يمكن التكهن بكيفية إدارة عون لعهده إذا انتخب، غير أن واقع الحال المزرية في لبنان والدعوة التي صدرت عن قمة جدة أمس بضرورة انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة بأسرع وقت ممكن، قد تجعل ورقة عون رابحة ويتمكن حقيقة من وضع لبنان على سكة التعافي مدعوماً من دول الخليج العربي التي سبق أن اختبرت نزاهته ونظافة كفه بالتوزيع الشفاف للمساعدات التي قدمت دعماً لصمود الجيش وعناصره.

فهل يكون جوزيف عون الورقة الرابحة والفرصة الأخيرة للبنان؟

شارك المقال