مَن خرج منتصراً من قمة جدة ومن خرج خائباً كي لا نقول مهزوماً؟
هل هو خط الممانعة و”المقاومة” كما أشيع على نطاق واسع أم هو خط الاعتدال والانفتاح كما أوحت الانطباعات التي أعقبت عودة المؤتمرين الى بلادهم؟
الجواب قد يكون الاثنين معاً أو قد يحتاج الى مزيد من الجولات، ما دام سلاح الحسم في الكثير من الملفات المتفجرة لم يتعدَّ مسألة الاشارات والتمنيات واكتفى بانتقاء العبارات المدروسة التي لا تفسد في الود قضية.
والواقع أن خط الممانعة الذي مثله الرئيس بشار الأسد حاول الايحاء في تحركاته بأنه يدخل الحظيرة العربية “دخول الفاتحين” من دون أن يبدو مديناً لأحد أو ممتناً لأحد، في حين بدا خط الاعتدال الذي قاده الأمير محمد بن سلمان وكأنه السفينة العربية الجديدة المبحرة نحو عروبة متطورة واسلام مهاب وشرق أوسط جديد يوازي أوروبا أو حتى يتفوق عليها.
وسواء كان هذا واقعاً أو مجرد انطباعات، فإن الأكيد أن هناك خاسراً خفياً في كل ما يجري في المنطقة، وهو المعارضة في سوريا والمعارضة في لبنان، كلٌ من زاوية معينة وحسابات معينة، اضافة الى قطر والكويت والمغرب، الثلاثي الذي لم تمنحه القمة ما يقلّم مخالب الأسد.
فالبيان الختامي، لم يتحدث عن أي تسوية سياسية في سوريا تشمل قوى المعارضة مباشرة، ولم يعطِ أي مواصفات للرئيس اللبناني المنشود تتماهى مع تطلعات المعارضة اللبنانية، مكتفياً، بالدعوة الى انتخاب رئيس وتشكيل حكومة وتطبيق الاصلاحات ونقطة على السطر.
وأكثر من ذلك، ذهب البيان الختامي في التباساته بعيداً الى حد “رفض تشكيل الميليشيات الخارجة عن سلطة الدولة” بدل حل القائم منها، بحيث أوحى للبعض وكأنه اعتراف غير مباشر بالميليشيات العاملة في سوريا ولبنان ومنها “حزب الله” الذي أقام عرضاً للعضلات في جنوب لبنان مباشرة بعد القمة، متجاهلاً سلطة الدولة ومؤسسة الجيش وقوات “اليونيفيل” والقرار ١٧٠١ وممسكاً بقرار الحرب والسلام من دون شراكة مع أحد، اضافة الى تحريك المياه الراكدة على الحدود مع اسرائيل التي أعلنت أن المصالحات الأخيرة لن توقف عملياتها العسكرية في سوريا.
ويسأل مصدر ديبلوماسي: هل يمكن أن يقوم “حزب الله” بما قام به من دون ايعاز من ايران ومباركة من سوريا، هو الذي اعتبره الأسد قوة عسكرية شرعية جاءت بناء على طلب رسمي، تماماً كما كان يفعل الرئيس حافظ الأسد عندما كانت تحرجه المطالبات بالانسحاب من لبنان؟
ويضيف المصدر في مكان آخر: ان كواليس المعارضة اللبنانية وتحديداً في معراب تبدو وكأنها خرجت من حسابات السنة العرب بعدما تباعدت عن السنة اللبنانيين، و”ان البيض الذي وضعته في سلة السعودية أثمر دجاجاً يبيض ذهباً في مكان آخر غير لبنان”.
ولا يخفي المصدر، أن ما جرى في قمة جدة ركز على المصالحات والمصالح أكثر مما ركز على الروابط والصداقات، مشيراً الى أن العرب ربما تقصدوا حرمان “المعارضة اللبنانية” من أي “جرعة معنوية”، بعد التشنج الذي ميّز التصريحات الأخيرة لبعض أركانها، وبعدما وصف سمير جعجع الرئيس بشار الأسد بـ “الجثة”، بحيث بدا وكأنه يتهم الدول العربية بالتعامل مع سراب أو مع شبح لا وجه له ومع نظام لا أساس له.
وسواء تقصد جعجع ذلك أو سقط منه سهواً، فان الأمير محمد بن سلمان، باعتراف الكثير من عارفيه، ليس من النوع الذي يطوي الصفحات بسرعة أو ينسى بسرعة، مشيرين الى أنه رمز السعوديين الجدد الذين لا يقدمون العواطف على الوقائع .
ويضيف: مشكلة المعارضة المسيحية أنها تعاملت مع السعودية الجديدة على أنها السعودية التقليدية، واعتقدت أن الرياض بعد تنحي الرئيس سعد الحريري وانحسار تيار “المستقبل”، باتت حكماً في حاجة اليهم وفي مقدمهم “القوات اللبنانية”، وبالتالي غير قادرة على رسم أي استراتيجية في لبنان من دون التنسيق والتعاون بين الطرفين.
وقد فات المسيحيين جميعاً أن التباينات والانقسامات والطموحات الشخصية، اضافة الى الصراع على السلطة، هي التي تجعلهم خارج التحالفات الثابتة سواء مع العرب أو مع الأميركيين أو الفرنسيين أو سواهم ممن يتعاطون في الملف اللبناني.
وقد فاتهم أيضاً أن القراءات الخاطئة في تعقيدات المنطقة وشبكاتها وحساسياتها وتبدلاتها الى جانب المعلومات المغلوطة والرهانات الملتبسة، لا تؤدي الا الى المزيد من الخيبات والانكسارات، وهو ما يفسر اليوم، كما في الأمس، ما أصاب المجتمع المسيحي من تراجعات دراماتيكية تكاد تفرغه تماماً من أتباعه.
ويكشف مصدر قريب من الجامعة العربية، أن العرب تعاملوا مع الملف اللبناني على أنه لغم أو قنبلة موقوتة لا يجوز الاقتراب منها تجنباً لأي صدام مع ايران التي تحاول اعادة التاريخ الى الوراء نحو أربعة عقود، أي الى اليوم الذي أخذ حافظ الأسد لبنان في مقابل تحرير الكويت وضرب صدام حسين، في محاولة منها لأخذ لبنان في مقابل السلام في اليمن واقفال مصانع الكبتاغون.
ويضيف: ان المعارضة المسيحية وصلت في مرحلة من المراحل الى اقتناع راسخ بأنها ركن أساس في العالم السني المتناحر مع ايران وسوريا، قبل أن تكتشف أن ما يحتاجه هذا العالم ليس دوراً ملتبساً في بيروت بل دور دولي فاعل لا يمكن أن يتمظهر من دون صلح مع طهران.
وهنا نعود الى السؤال الأول، من خرج منتصراً من قمة جدة ومن خرج مهزوماً؟ والجواب أن الأسد تمكن من دفن مليون سوري من دون أن يحاسبه أحد حتى الآن على الأقل، وأن محمد بن سلمان تمكن من خلافة مصر في القيادة العربية وعبد الناصر في الزعامة العربية على الرغم من العراقيل والألغام المنتشرة في طريقه، في حين عاد المعارضون في سوريا ولبنان الى المربع الأول يبحثون عن أي حل أو مخرج يحفظ ماء الوجه أو يحفظ ما تبقى لديهم من مقومات قد يحتاج اليها العالم يوماً ما أو قد يهملها الى الأبد، وعاد الوفد اللبناني الى بيروت بعدما “علك” ملفه في شكل “شحاذ” أنيق.
انه اتفاق الخطوة في مقابل خطوة.
رأس لبنان هل يكون الخطوة الأولى، واذا صح ذلك ماذا يمكن أن تكون الخطوة السورية في المقابل؟ والأهم من كل ذلك يبقى أن نعرف ماذا يمكن أن تفعل الولايات المتحدة التي تشعر بأن البساط العربي يُسحب تدريجاً من تحت قدميها وأن بشار الأسد تحوّل من متهم ينتظر الحكم، الى ديان يضع الشروط ويصدر الأحكام؟