فرنجية رئيساً! ممَّ يخاف “حزب الله”؟

أنطوني جعجع

لماذا يصر “حزب الله” على انتخاب رئيس للجمهورية لا “يطعنه في ظهره”، وهو العالم أن أحداً في لبنان لا يملك من القوة ما يتيح ذلك، ولا يملك من الجنون ما قد يجره الى صدام انتحاري في معركة غير متكافئة؟

وثمة سؤال آخر، كيف يمكن لمن يحتكر السلاح وقرار الحرب والسلم في لبنان ويقيم “توازن رعب” مع اسرائيل، أن يتوجس من رئيس شبه “معلب” ومنعدم الشعبية والسلاح والصلاحيات، وأن يوحي لبيئته وحلفائه وعرّابيه بأن أي خطأ في اختيار الرئيس العتيد يشبه خطأ “حرب تموز” الذي وضع “المقاومة الاسلامية” أمام واحد من أصعب اختباراتها وأشدها حرجاً وخطراً؟

الواقع أن “حزب الله”، واستناداً الى تفاصيل المشهد اللبناني العام، يتوجس من أمرين متلازمين: الأول احتمال وجود رئيس لا يختاره ويخفف أو يشاركه القبض على مفاصل الحكم، والثاني ظهور خضات عسكرية أو صفقات اقليمية لا تجد في قصر بعبدا من لا يوقع عليها أو يرفضها، تماماً كما حدث في أحكام المحكمة الدولية، وفي تحقيقات “الرابع من آب”، وفي العقوبات الأميركية، وفي القوانين الانتخابية والتشكيلات الحكومية والغطاءات الشرعية، والسياسات الخارجية والاستراتيجيات الدفاعية والتسهيلات القائمة في المرافق الحيوية جواً وبراً وبحراً.

والواقع أيضاً، أن “حزب الله”، يرفض التخلي عن ثلاثية “الشعب والجيش والمقاومة”، على الرغم من علمه أن الجيش “غير مجهز” للقتال الى جانبه في مواجهة اسرائيل، وأن الشعب لن يبارك أي عمليات عسكرية يشنها من دون العرب جميعاً من أجل القدس أو فلسطين أو الجولان، وأن “المقاومة” انتقلت بعد العام ٢٠٠٦ من تعليق “شعار شبعا” الى رفع “شعار القدس”، بعدما كبّلها القرار١٧٠١وباتت “حارسة” ترسانة لا وظيفة لها خارج الصراعات العربية – الايرانية.

والواقع أيضاً وأيضاً أن الثلاثية الحقيقية التي يسعى اليها ويتمسك بها، هي ثلاثية الرؤساء من قصر بعبدا مروراً بمجلس النواب وصولاً الى القصر الحكومي، إضافة الى قوى عسكرية شرعية لا تعاديه ولا تنجر الى أي صدام معه سواء بقرار محلي أو بضغط خارجي.

من هنا يمكن فهم التمدد المريح الذي حازه في عهد ميشال عون، ويمكن أيضاً فهم اصرار حسن نصر الله على سليمان فرنجية، وفهم الاشادات الخجولة التي يبديها حيال المصالحات العربية مع كل من سوريا وايران والمخاوف المبطنة التي يخفيها حيال أي تنازلات قد تجيء له بما يشبه الدخان الرمادي الذي صعد من “مدخنة الدوحة” بعد غزوة “الثامن من أيار”.

والواقع أن “حزب الله” وايران، يتصرفان وكأنهما “كيان مسلم خاص” لا علاقة له بما تقرره الجامعة العربية أو “منظمة المؤتمر الاسلامي”، محاولاً الفصل بين بعض المصالحات الاقليمية والصراع مع اسرائيل والولايات المتحدة، والظهور في مظهر الشخصية المسلمة الوحيدة المعنية بتحرير القدس والصلاة في المسجد الأقصى، والقوة الاسلامية الوحيدة التي تملك “تفويضاً من السماء” لنصرة أمور المسلمين في الشرق الأوسط وكل زاوية من زوايا العالم.

وهنا أيضاً لا بد من سؤال آخر، لماذا قرر “حزب الله” استعراض قوته العسكرية في عرمتى، بعد أيام على بيان ختامي من قمة جدة لم يتبنَّ الخيار العسكري ضد اسرائيل مقدماً الخيار السياسي والتفاوضي على أي خيار آخر… ولماذا ظهر حسن نصر الله في ذكرى “التحرير” في خطاب يضرب به مزاج التسويات في المنطقة ويفصل بين الأنظمة التي طبعت علاقاتها مع اسرائيل وشعوبها؟

وأكثر من ذلك، لا بد من سؤال آخر: اذا كان النظام لا يمثل شعبه، فما جدوى المصالحات الأخيرة، ولماذا يكون النظام في سوريا ممثلاً لشعب مشرّد في كل أنحاء العالم ولا تكون الأنظمة الأخرى رافعة أو حاضنة لشعوبها؟

أسئلة كثيرة، لكن السؤال الأهم يبقى: ممَّ يخاف “حزب الله”؟

مصادر قريبة من الضاحية الجنوبية كشفت أن نصر الله بات في جو مواجهة حتمية أو وشيكة بين ايران واسرائيل التي باتت في ما يبدو متأكدة من أن ايران اقتربت كثيراً من انتاج قنبلة نووية، ومتأكدة أيضاً من أن المفاوضات الأميركية والدولية مع طهران ليست الا وقتاً ضائعاً لا بل جهد بائد.

وأضافت أن مناورات عرمتى، وقبلها الصواريخ المتطورة التي ظهرت في غزة أخيراً، ليست الا أنموذجاً لما يمكن أن تواجهه اسرائيل اذا أقدمت على أي مغامرة ضد ايران، مشيرة الى أن “قوى الممانعة” نجحت في توحيد الجبهات المحاذية للدولة العبرية، ضاربة عرض الحائط بما يقرره العرب في قممهم أو ما يقرره المسلمون في مؤتمراتهم.

والواقع أن ما فعله “حزب الله” في عرمتى، حرّك المخاوف الأميركية والترسانة الاسرائيلية من جهة، وكرّس من جهة ثانية الحقيقة التي تقول إن لبنان تحول فعلاً الى مقاطعة إيرانية، وان الجيش اللبناني لن يكون يوماً قادراً على الحلول محل “المقاومة الاسلامية” مهما تلقى من سلاح وتدريبات، ليس من منطلق ضعف بل من غياب القرار السياسي من جهة والاجماع الوطني من جهة ثانية.

وليس سراً أن “حزب الله” في عرمتى نجح في تهميش الجيش وإبعاده من أي خيارات أو قرارات مستقلة تماماً كما حدث في معركة نهر البارد، وفي تحذير من يعنيهم الأمر من مغبة اختيار رئيس لا يجيد التوقيع بلا تردد، وفي دفع الأميركيين الى التفكير في وقف المساعدات العسكرية عن المؤسسة الشرعية، تماماً كما فعلت السعودية عندما سحبت هبة من ثلاثة مليارات دولار لتسليح الجيش رداً على حملة شعواء شنها نصر الله على الرياض من دون أي موقف اعتراضي من الدولة اللبنانية.

ويذهب مصدر قريب من هذا المزاج بعيداً الى حد القول ان “حزب الله” يحاول الهرب نحو تشنج مع اسرائيل لتلافي أي تسوية سعودية – سورية قد تقضي بانسحابه من سوريا، تماماً كما أصابه في اليمن على المستوى العسكري وكما أصابه على المستوى السياسي بحيث يجهد عبثاً لايصال مرشحه الى قصر بعبدا.

وأضاف أن “حزب الله” الذي فقد الغالبية النيابية في البرلمان الحالي، وبات شأنه شأن أي تيار سياسي آخر، في حاجة اما الى تنازلات لا يقوى على ابتلاعها، واما الى فراغ لا يقوى على تحمله، واما الى كلمة سر خارجية قد لا يقوى أيضاً على رفضها.

كلمة السر هذه، لم تأتِ له حتى الآن بمرشحه الوحيد سليمان فرنجية ولم تحفظ له التحالف مع “التيار الوطني الحر” صامداً وثابتاً، ولم تمنحه أي دعم عربي اثر الحياد السعودي، ولا أي دعم دولي في ظل البلبلة التي أصابت فريق الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، ما يعني أن عهد الأعذار والتبريرات والسلاح والصواريخ قد وصل الى مرحلة حاسمة تقتضي الانسحاب من حال التسويات الى حال الصدامات مع تل أبيب، بعدما ألقت حربه من أجل سوريا سلاحها، ودخلت حربه من أجل اليمن محطتها الأخيرة، ومالت حربه من أجل العراق نحو المحاصصات والتسويات.

والسؤال هنا، اذا كان “خط الممانعة” يميل فعلاً الى خوض حرب مع اسرائيل، فهذا يعني أن المصالحات التي أجراها ليست الا محاولة لشراء الوقت، ايران تضحك على الجميع، وأن الأسد يمارس “كذبة” تشبه تلك المناورات والمواربات التي مارسها النظام الحاكم في دمشق منذ سبعينيات القرن الماضي؟

وما يعزز الاحتمال الأخير اصرار الثنائي الشيعي على ايصال فرنجية الى الرئاسة الأولى معتبراً ذلك مسألة حياة أو موت، ومردداً جهاراً وتكراراً أن سقوطه ممنوع وانسحابه ممنوع وترشيح من يمكن أن يسقطه ممنوع أيضاً.

انه الخط الذي يخوض أشرس معاركه في الداخل والخارج، محاولاً ايهام الناس والعالم بأنه آخر “المحاربين” العرب أو آخر “المجاهدين” المسلمين. فهل يتعامل معه العرب على أنه “بندقيتهم الوحيدة” ويتعامل معه المسلمون على أنه “منقذهم الوحيد”، أم تثمر المصالحات الأخيرة مصالح مشتركة تبرد رؤوساً حامية في مكان وتلغيها في مكان آخر، وتعيد رسم خريطة اقليمية جديدة لا وجود فيها للمغرّدين خارج الأسراب العربية والاسلامية؟

شارك المقال