لترسيم القرنة السوداء عقارياً بدلاً من الدماء

زياد سامي عيتاني

ما شهدته جرود القرنة السوداء، هو بكل المعايير الانسانية والوطنية، فاجعة أليمة مرفوضة ومدانة، تدمي القلوب، وتحبس الأنفاس، لما يمكن أن ينتج عنها من تداعيات خطيرة، من شأنها تهديد السلم الأهلي، على خلفية طائفية بين قضاءي بشري والضنية، إذا لم تعالج ذيولها بحكمة وعقل بارد ومسؤولية من كل الأطراف المعنية!

الخطير في الموضوع، أن كل سنة، يعود النزاع بين أهالي الضنية وبشري حول القرنة السوداء، والمشاعات والمراعي المحيطة بها، ومياه نسافات الثلج، وأحقية كل طرف بملكيته لها، إلى البروز مجدداً، حتى بات مطلع كل صيف، موعداً لتجدد هذا النزاع، الذي يصل أحياناً إلى حدّ حصول تعديات وإشكالات، تدفع الجيش والقوى الأمنية إلى التدخل لاحتوائها (!)، في حين أن كلّ طرف يؤكد حجته، إستناداً الى وثائقه، من دون أن يُحسم هذا الخلاف التاريخي.

تعد القرنة السوداء أعلى قمة في الشرق الأوسط، حيث يبلغ إرتفاعها 3,088 متراً عن مستوى سطح البحر. ولهذه المنطقة الغنية بالمياه، أهمية كبرى من الناحية الزراعية للمنطقتين.

والخلافات التي تعود إلى 25 عاماً إلى الوراء على الأقل، كان سببها إتهامات بالاعتداء على الخراطيم التي تنقل المياه ما يضرّ بالعديد من العائلات التي تعتمد على زراعة الخضروات.

ووفق فعاليات بشرّي فإنّ هذه “النباريج” تؤثر على المياه الجوفية التي تصل إلى بشرّي وزغرتا والضنية.

الحوادث التي تتكرّر كلّ صيف، تشمل أيضاً قطع أشخاص من بشرّي أنابيب مياه بلاستيكية، يزيد طول بعضها على 5 كيلومترات، تقوم بجرّ مياه نسافات الثلج، أي أكوام الثلج التي تبقى متراكمة فوق القمّة على مدار العام والتي تذوب، من أجل ريّ أراضٍ زراعية واسعة استصلحها مزارعون من بقاعصفرين، في محلّة جرد النجاص عند تخوم القرنة السوداء لجهة الضنية.

يتذرّع البشرّاويون بأن هذا الاستجرار يؤدّي إلى خفض منسوب مياه الينابيع عندهم، في وقت لم يبصر مشروع وزارة الزراعة بإنشاء بركة مياه في المنطقة النور، والتي من المفترض أن تشكّل بديلاً لمزارعي الضنية، وبقي المشروع حبراً على ورق، بعدما واجهته إعتراضات سياسية وبلدية من بشري.

على الرغم من كل ذلك، لم تسفر الجهود والمساعي التي تُبذل كلّ عام، وعلى أكثر من مستوى، عن إيجاد حل لهذه المشكلة التي تتفاقم كلّ صيف، وتتسبّب بوقوع إشكالات يتخلّلها إطلاق نار وتعديات، وتؤدّي إلى تأجج طائفي على طرفي القمة.

يذكر أنه في سنة 1998، أصدرت وزارة البيئة قراراً رسمياً، بتوقيع من الوزير أكرم شهيب، يصنف جبل المكمل – القرنة السوداء، من المواقع الطبيعية الخاضعة لحماية الوزارة، ويحظر فيه جميع أنواع الحفر التي تهدف الى إستغلال مياه الأمطار والثلوج على ارتفاع أكثر من 2400 متر.

غياب التحديد والتحرير أيضاً، كان وراء استمرار النزاع بين المزارعين من أبناء قرية بقاعصفرين في الضنية وبلدة بشري التابعتين لمحافظة الشمال، على القرنة السوداء التي تعتبر أعلى قمم جبل المكمل، وهي أرض مشاع، تعود الى البلديات إدارتها وتنظيم طريقة إستثمارها، وفق المادة 7 من قانون الملكية العقارية والقرار رقم 3339 والصادر في تشرين الثاني 1930.

هذا النزاع في بلديتي بقاعصفرين وبشرّي، أدى إلى إبراز وثائق تثبت أن القرنة السوداء تقع في نطاقهما، وأن الطرف الآخر هو المعتدي.

يشار إلى أن خرائط الجيش اللبناني توضح أن القرنة السّوداء تبعد نحو 4 كيلومترات (خط نار) عن حدود بشري الادارية.

كما أن أمانة السجل العقاري في الشمال أكدت في تقرير لها، في 12 آب عام 2014، بناءً على طلب محافظ الشمال رمزي نهرا، إثر تجدد النزاع بين البلديتين، أن القرنة السوداء ومحطيها يقعان ضمن نطاق بلدية بقاعصفرين العقارية.

في بلد مثل لبنان، المأزوم سياسياً وطائفياً، وبعدما أنجز سلمياً، ترسيم حدوده البحرية مع العدو الاسرائيلي، فإنه عاجز عن الترسيم العقاري بين قريتين متجاورتين، تتجدد الصراعات سنوياً بين أهاليهما، على خلفية طائفية، وكأن المطلوب ترسيمها بدماء بريئة (!) في غياب المعالجة الجذرية للنزاع المزمن بينهما، على الرغم من الحيوية المائية للمنطقة!

شارك المقال