من معراب الى القرنة السوداء

أنطوني جعجع

ما جرى في القرنة السوداء أخيراً لم يكن من فعل المصادفة، على الرغم من الجمر المستعر تحت الرماد منذ سنوات عدة، ولم يكن عملاً يمكن التعامل معه من بوابة الحوادث العادية التي يمكن اخمادها بطرق عشائرية تتخطى في بعض المرات الطرق القانونية والقضائية البديهية.

ولم يكن ما جرى في أعلى قمة في لبنان مجرد خلاف مزمن على ترسيم حدود بين منطقتي بشري والضنية أو على تقاسم مياه أو رعي مواشي في أرض يدّعي كل طرف ملكيتها، بل خلاف مستحدث ومتعمد يحمل في طياته الكثير من الرسائل السياسية والأمنية التي تصب في أكثر من اتجاه وتحركها أكثر من جهة.

وقبل كل ذلك لا بد من أسئلة جوهرية: لماذا قرر أهل الضنية فجأة وتحديداً بلدية بقاصفرين التعامل مع منطقة القرنة السوداء على أنها جزء من النطاق الجغرافي لبلدتهم قبل الحصول من المراجع القضائية المختصة على ما يثبت ذلك؟ وهل تحوّل وجود مزارعين أو رعاة من بشري في هذه المنطقة احتلالاً أو غزواً يجب التصدي له بكل أنواع الأسلحة وعبر خلايا أصولية منتشرة في بيئة حاضنة أو متعاطفة على الأقل الى حد يكفي لتأمين ملاذ آمن لها؟

وأكثر من ذلك، لماذا تماطل المراجع القضائية المعنية في التأكد من صحة الوثائق التاريخية والجغرافية التي قدمها الطرفان لتثبيت الحقوق والملكيات بعيداً من السلاح؟ ولماذا لم تتدخل وزارة الدفاع لتقديم ما لديها من خرائط موثقة يمكن أن تحسم أو تساعد في عمليات الترسيم النهائي؟ ولماذا توقف العمل في البحيرة التي تقرر إنشاؤها لتأمين المياه لمنطقة الضنية وارغام سكانها في المقابل على استجرار المياه من أي منطقة متاحة حتى لو أدى ذلك الى فتنة طائفية؟

وأكثر من ذلك أيضاً، لماذا لم تسعَ فاعليات المنطقتين، في عز “شهر العسل” الذي أعقب “الرابع عشر من آذار”، الى تحريك هذا الملف المتفجر تمهيداً لاقفاله بدل الدعوات الى “ضبط نفس” مخنوق من هنا ومسايرات ترقيعية من هناك؟ ولماذا لم تتحرك الدولة لاعتقال من نزع “الرموز” (الدلتا) التي وضعها الفرنسيون لتحديد ما يشبه الحدود المشتركة، وأطلق النار على الصلبان التي نصبها أهل بشري؟ ولماذا لم تعتقل، على المقلب الآخر، من اعتدى على الامدادات التي نشرها أهل الضنية لجر المياه، وعلى قطعان الماشية وسواها من الأعمال والتحركات التي تكثر في فصل الصيف؟

الواقع، أن الدولة كانت على علم بحجم التوتر القائم بين الطرفين واقترابه من مرحلة الانفجار، وعلى علم أيضاً بوجود خلايا أمنية من خارج المنطقة تتولى أعمال التدريب والتحريض والتخطيط، اضافة الى أنها كانت تعرف أن شيئاً ما قد يحدث بعد انقشاع الرؤية وذوبان الثلوج. وقد تأكد ذلك بعد رصد مخيمات أمنية غريبة في المناطق القريبة من بلدة بقاعصفرين، وتحركات مشبوهة ظهرت قبل أسبوع من عملية القنص، وترجمت باطلاق النار على مغتربين لبنانيين كانوا في جولة سياحية في المنطقة.

والسؤال هنا: لماذا حدث كل ذلك الآن؟ ومن هي الجهة القادرة على تحريك هذه الجبهة كلما أرادت توجيه رسائل سياسية أو أمنية الى هذه الجهة أو تلك؟

الجواب يكمن في ثلاثة أماكن مختلفة لكن متجانسة، وهي أولاً: تصاعد الانفلاش المتدرج والمدروس على قمم لبنان والسعي الى السيطرة عليها لأهداف لوجيستية وديموغرافية واستراتيجية وأمنية، وتحديداً في مناطق العاقورة وعيون السيمان وصنين، اضافة الى القرنة السوداء، في عملية ينظر اليها العالم الغربي على أنها تهديد استراتيجي للوجود العسكري الأميركي في البحر الأبيض المتوسط، وينظر اليها المسيحيون على أنها مصدر خطر يهدد أمنهم ومصالحهم وأرضهم ومشاعاتهم، وثانياً استغلال غياب الدولة وشلل المؤسسات القضائية والوزارية، وتفوق السلاح، لتمرير أو رسم حدود جديدة لما يعتبره البعض “لبنان الجديد”، وثالثاً، حساسية المنطقة التي تضم في الضنية وتحديداً في بلدة بقاعصفرين خصمين لدودين هما بعض الخلايا الأصولية و”سرايا المقاومة” من جهة، وأنصار آل كرامي من جهة ثانية، وفي بشري فريق “القوات اللبنانية” وأهل بشري الذين يملكون مصالح طبيعية وحياتية في تلك المنطقة والمعروفون بنزعتهم القتالية التاريخية، علماً أن القتيلين اللذين سقطا هما من أنصار النائب وليم طوق الذي كسر الصبغة الحزبية في المدينة وأعادها الى الثنائية والتنوع بأشكال مختلفة.

والواقع أن السؤال الأكثر خطورة يكمن في طبيعة الحادث الذي وقع السبت الماضي وتحديداً في نوع السلاح الذي استخدم في قتل الشاب هيثم طوق الذي كان في المنطقة في جولة تفقدية، وهو كناية عن بندقية “قنص” متطورة قادرة على اصابه أهدافها بدقة من مواقع بعيدة، ما يؤكد النية الجرمية لدى من يملك مصلحة في العبور من الملف الأمني الى الحسابات السياسية.

ويقول خبراء عسكريون ان البندقية التي استخدمت في عملية القنص ليست متوافرة في أي مكان بل لدى جهات حزبية وعسكرية معروفة استخدمتها في عدد من المواجهات المباشرة ومحاولات الاغتيال.

وتذهب أوساط سياسية شمالية بعيداً الى حد الربط بين جريمة القرنة السوداء والملف الرئاسي، مشيرة الى أن ثمة جهة تحاول ممارسة ضغط أمني على “القوات اللبنانية” التي ترفض الحوار والسير بمرشح الثنائي الشيعي، وجر قائد الجيش العماد جوزيف عون الى مواجهة مع فريق مسيحي وازن لسببين أساسيين، الأول إحراق ورقته الرئاسية في الوجدان المسيحي، والثاني حمله على تقديم “أوراق اعتماد” الى الجهة التي تتحفظ عن موقفه من “المقاومة الاسلامية” وعلاقته المتينة مع الأميركيين.

والواقع أن الجيش وقع في الكمين الذي نُصب له وأردى شاباً آخر من منطقة بشري هو مالك طوق في خطوة رسمت أكثر من علامة استفهام وأكثر من عملية حسابية وسياسية، ووضعت المؤسسة العسكرية وقائدها وجهاً لوجه مع مدينة مارونية طالما عرف أبناؤها بالعصبية المسيحية التاريخية.

من هنا بالذات يمكن فهم التعتيم الكامل على تصدي الجيش لأهالي بشري وقتل أحدهم واعتقال بعضهم، وكذلك حرص السلطات الأمنية على أخذ التحقيق من واقع “القنص البعيد” الى واقع الاشتباك القريب، متخوفة من أن تقود تلك البندقية الى الجهة التي نفذت عملية الاغتيال.

وهنا لا بد من السؤال: ماذا بعد؟

هل يؤدي الحادث الى تسريع الحلول الجذرية والنهائية للخلاف الحدودي بين بشري والضنية تجنباً لمواجهة طائفية قد تمتد الى أكثر من منطقة حساسة في لبنان؟ وهل تعمد الدولة الى توقيف القناص أو القناصة الذين يتردد أنهم معروفون على مستوى الأسماء والانتماءات؟ وهل يعمد أهل بشري الى اتباع منطق الثأر الذي بات بالنسبة اليهم الوسيلة الأنجع لرد الاعتبار واتباع الأمن الذاتي؟

أسئلة كثيرة يمكن اختصارها بجوابين اثنين: الأول قيام الدولة بتجهيل هوية الجاني كما فعلت في حوادث سابقة تجنباً لقيادة الرأي العام البشراوي واللبناني الى الجهة التي لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها، والثاني تجهيل الجهة التي تملك مثل هذه القناصات الاحترافية وقطع الطريق على أي مطالبات تتعلق بمعرفة أو كشف الفريق الذي استعملها قبل سنوات في منطقة معراب في محاولة اغتيال تشبه الى حد بعيد ما جرى في القرنة السوداء.

وأخيراً، لا بد من التساؤل: ماذا يمكن للعالم الغربي أن يفعله في مواجهة القمم اللبنانية المدججة بالسلاح وربما بالصواريخ؟ وماذا يمكن أن يفعل سكانها الجدد في وقت ظهرت اشارات في واشنطن تؤكد أن القرار ١٥٥٩ يجب أن يعود الى الواجهة، وأن حلف الأطلسي لن يقف متفرجاً على محور الممانعة وهو يستوطن قمم لبنان التي ساهم بعضها ذات يوم في طرده من السواحل اللبنانية؟

شارك المقال