هل المسيحيون إلى زوال؟

عاصم عبد الرحمن

هو استحقاقٌ دستوري بأبعاد وطنية، للمسيحيين وبمشاركة المسلمين الكلمة الأساس فيه، إنه الموقع الماروني الأول في الجمهورية اللبنانية تكرّس عرفياً منذ العام 1943، وبين الفرض والتعيين والانتخاب المعلب ينتفض المسيحيون اليوم لمواجهة إرغامهم على القبول بمرشح الثنائي الشيعي الذي عارضه 77 نائباً. فإلى أين ستصل الخيارات المسيحية بالمسيحيين؟

على وقع استفحال الشغور الرئاسي وانسداد أفق الحلول السياسية الآيلة إلى بدء معالجة أزمات لبنان المتعددة وغير المسبوقة في التاريخ الحديث وغياب المسيحيين عن مقاعد حكومة تصريف الأعمال، مواقع مسيحية عدة ذات أبعاد سياسية وروحية وطنية تشغر تباعاً بدءاً من حاكمية المصرف المركزي بحيث تنتهي ولاية الحاكم رياض سلامة في 31 تموز الجاري، وفي مطلع العام المقبل تنتهي ولاية قائد الجيش العماد جوزيف عون بالإضافة إلى انتهاء ولاية قائد الدرك العميد مروان سليلاتي في تشرين الأول المقبل من دون إمكان تعيين بدلاء عنهم في ظل شغور رئاسي وتصريف حكومي وخلافات سياسية حول كيفية إدارة الدولة وممارسة الحكم واختلافات في وجهات النظر المتعلقة بالدور والكيان والهواجس.

لاءاتٌ ثلاث أطلقتها القوى المسيحية بأكثريتها الساحقة: لا لمرشح الثنائي، لا للحوار حول مرشح الثنائي ولا للمبادرة الفرنسية التي تتمحور حول إيصال مرشح الثنائي، إذاً اللاءات المسيحية الثلاث تنبع من رفضٍ مطلقٍ لفرض خيارات “حزب الله” ومن خلفه محور الممانعة على المسيحيين الذين خاضوا رهان الفوضى وتغيير النظام لإسقاط منطق التعالي السياسي عبر فرض مخايل الضاهر رئيساً للجمهورية، وهنا يأخذ البعض على المسيحيين عدم سيرهم بالضاهر والمغامرة بالفوضى وتغيير النظام السياسي الذي أتى على حسابهم الدستوري.

أما اليوم فقد استُبدلت العناصر الداخلية والخارجية، سابقاً مخايل الضاهر أو الفوضى برعاية أميركية وتنفيذ سوري، حالياً سليمان فرنجية أو الفراغ برعاية إيرانية وتنفيذ “حزب الله”، لكن الواقع تغير فلا حرب أهلية تهشم البلاد والأحزاب المسيحية جذورها ضاربة في السلطة، والوقائع تظهر عدم قدرة أي طرف على فرض الخيارات مهما علا سقف التهديدات ووُزعت الاتهامات.

إن عدم القدرة على الفرض تحول إلى إمكان التعطيل وإطالة أمد الشغور السياسي والدستوري من دون إيجاد الحلول بانتظار بروز متغيرات إقليمية ودولية ترجح كفة أحد الأطراف على الآخر وهو ما تجلى بجلسات انتخاب الرئيس، فالمرشح الرئاسي سليمان فرنجية نفسه فتح باب الحوار حول رئيس توافقي في مقابل استعداد القوى المتقاطعة على جهاد أزعور للتفاوض حول التوافق الرئاسي.

يتساءل مراقبون مسيحيون غير حزبيين عبر “لبنان الكبير” لماذا أصبح الشغور الرئاسي عرفاً؟ هل تختصر الأحزاب المسيحية كل المسيحيين؟ كيف تحقق القوى المسيحية مصالح المسيحيين؟ ما هي معايير مرشحي التوافق والتحدي؟ أليس فرنجية مسيحياً؟ لماذا يرفض المسيحيون مبادرات الحوار؟ هل يحق للثنائي الشيعي ما لا يحق لغيره؟ أي دور يبحث عنه المسيحيون في ظل تبدل موازين القوى الداخلية على وقع مصالح القوى الخارجية؟

لا شك في أن هواجس المسيحيين المتعلقة بالوجود المشرقي والكيان السياسي مبررة في ظل سلاح غير شرعي على وقع فوضى لعبة المصالح الدولية من أفريقيا وآسيا إلى الشرق الأوسط والعالم العربي تحديداً، إلا أن الدور المسيحي ليس مرتبطاً بالتعداد الديموغرافي أو الانتشار الجغرافي ولا حتى بوجود أشخاص محددين في السلطة، بل بحجم المشاركة في صناعة القرار الوطني بشتى الوسائل السياسية والدستورية المشروعة على اعتبار أن السياسة هي فن الممكن وقطار المصالح يسير بمن حضر فعند تغيير الدول لا بد من حفظ الرؤوس، حالٌ إنما يشمل القوى السياسية والطائفية كافة من السُّنة الذين تراجع حضورهم السياسي على أثر تعليق سعد الحريري وتيار “المستقبل” العمل السياسي، إلى الدروز الذين فقدوا دور بيضة القبان في الاستحقاقات الدستورية والوطنية بفعل تعدد الكتل النيابية وتنوعها.

هي ليست دعوة للخضوع أو الاستسلام فزمن الهيمنة والتخويف سقط تحت أقدام الوعي السياسي، إنما لا بد من التوجه فوراً إلى المشاركة القوية في قلب السلطة حتى لو عارضتها، إلى تسييل الخيارات السياسية في صلب القرارات الوطنية وإلى المواجهة من داخل المؤسسات لا التمترس خارجها خلف أكياس رمل العناد والرفض السياسيَيْن بغض النظر عمن يتربع على عرش السلطة ريثما تنجلي غيوم التعطيل والشغور المتمادي وعودة الجميع إلى رشد الدولة تحت سقف القانون والمؤسسات بعيداً من لغة الترهيب والتخوين، فالمسلمون والمسيحيون على السواء مطالَبون بممارسة اللعبة الديموقراطية بما يحقق الشراكة الفعلية والمناصفة السليمة وفقاً للوجه الشرعي الذي يفترض احتكام المجتمعات التعددية إليه.

إن الأدوار السياسية والوطنية لا ترتبط بالأشخاص بل بجرأة المشاركة والإصرار عليها مهما بلغت التحديات، وتحويل ضعفها إلى قوة وجودية ترسي ركائز الكيان وفق مقاييس دولة القانون والمؤسسات خارج ميدان مصالح الأحزاب التي لا تبلغ غاياتها إلا بالوسائل الطائفية والتسلطية غير المشروعة. أفلا يستحق لبنان الدولة والكيان التضحية من أبنائه ومؤسِسيه؟

شارك المقال