إرحلوا أيها المقرفون

عاصم عبد الرحمن

يقول مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته: “إذا رأيت الناس تُكثر الكلام المضحك وقت الكوارث فاعلم أن الفقر قد أقبع عليهم، وهم قومٌ بهم غفلة واستعباد ومهانة، كمن يُساق للموت وهو مخمور”. فلا يلومنَّ أحدٌ الشعب اللبناني الذي يمنّي نفسه بتحقيق أحلامه في الحصول على أبسط حقوقه في الغذاء والتعليم والملبس والطبابة وحفنة من ترفيه عن نفس أثقلتها أعباء الزمن القاسية، لكن لا حياة لمن نادوا فانصرفوا إلى الاستهزاء بما ومَنْ حولهم، سخروا من الحرائق التي أرادها أحد السياسيين مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين، والتظاهرات التي كشفت حجم الاحباط النفسي واكتشفت آلاف المحللين الأخصائيين، والأوبئة التي ابتكروا في سياق التباعد الإجتماعي الذي فرضته أساليب طريفة للتقارب الانساني، نكاتاً ما وفرت الانفجارات والانهيارات المالية والتربوية والاجتماعية وحتى الأحوال الجوية وغيرها. فإلى أي حال أوصل سياسيو لبنان شعبه العظيم؟

تاريخ من حروب الآخرين

منذ ما قبل تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920، شهدت الأراضي اللبنانية حروباً ذات صبغة طائفية وأهلية لها أبعاد خارجية أبرزها ما عُرف بأعوام الفتنة بين 1840 و1861 حين وقعت المعارك الضارية بين الدروز والموارنة في جبل لبنان مدفوعين بقوة الصراع الانكليزي – الفرنسي على توسيع رقعة النفوذ في مناطق الاستعمار أدت إلى نشوء قائمقاميتين الأولى مارونية والثانية درزية.

حرب أخرى وقعت بين الموارنة أنفسهم عُرفت بثورة الفلاحين عام 1858 ثار فيها الفلاحون ضد الاقطاع. وفي العام 1958 اندلعت حرب صغيرة عُرفت بثورة كميل شمعون بين المؤيدين لحلف بغداد الأميركي – البريطاني من جهة وبين المؤيدين للقضايا العربية من جهة أخرى.

في العام 1975 اندلعت الحرب الأهلية التي بدأت كصراع بين المسيحيين والفلسطينيين سرعان ما تطورت إلى حرب طائفية مستعرة في مختلف أرجاء البلاد. مجزرة كتائبية بقيادة بشير الجميل وقعت في منطقة الصفرا الكسروانية ضد حزب “الوطنيين الأحرار” عام 1980.

وقوع مجزرة صبرا وشاتيلا عام 1982 وإسقاط حركة “أمل” والحزب “التقدمي الاشتراكي” حزب “المرابطون” عام 1984، وفي العام 1986 اندلعت حرب بين سمير جعجع وايلي حبيقة بهدف إسقاط الاتفاق الثلاثي الذي هدف إلى إنهاء الصراع بين حركة “أمل” والحزب “التقدمي الاشتراكي” و”القوات اللبنانية” برعاية سورية. حرب الإخوة بين “حزب الله” وحركة “أمل” التي وقعت عام 1988. اندلاع حرب الإلغاء بين سمير جعجع وميشال عون عام 1989.

أحداث 7 أيار 2008 آخر المعارك الداخلية التي قادها “حزب الله” في بيروت. تخللت كل تلك المعارك حروب خارجية شنها العدو الصهيوني بالإضافة إلى مسلسل اغتيالات سياسية غيّرت الكثير في وجهات المسار والمصير اللبنانيَيْن.

إذاً، تاريخ حافل بالمعارك والحروب العسكرية الداخلية شنّها لبنانيون لأهداف شخصية وبقوة دفع خارجي، خاض الخارج معظمها بأيادٍ لبنانية بهدف زرع الشقاق وتحقيق المصالح وبناء المشاريع على أنقاض وطن هشّمته النزاعات على توسيع رقع النفوذ داخلياً وخارجياً.

سياسيو لبنان… نسخة أُعيدَ تدويرها

لا يحتاج أي مراقب إلى إجراء جولة أفق في تاريخ العائلات السياسية اللبنانية أو الأحزاب المستمرة في حكم لبنان والعمل على احتكام الشعب إليهم تارةً عبر إسقاطهم في بؤر العوز والجوع لضمان استمرار حاجتهم إليهم كمنقذين، وطوراً عبر تسعير النعرات الطائفية وإثارة الغرائز العشائرية والمناطقية الضيقة ترجمتها عبر قانون انتخابي أقرب ما يكون إلى استفتاء عائلي قروي لارتكازه على التجييش الطائفي والقبلي بعيداً من الخطاب الوطني الجامع.

هي الأحزاب نفسها تكونت ونشأت منذ ما يسمى باستقلال لبنان عام 1943 أو حتى قبله ولا تزال مستمرة حتى اليوم، استقلال انتقل رواده إلى رحاب السفارات لعقد الصفقات وإتمام السمسرات السياسية والاقتصادية. بعض الأحزاب أفل نجمه وبعضها الآخر لا يزال قابعاً في زوايا الوطن جاثماً في ثنايا قلب المواطن والطائفة وباسمهما منها: حزب “الكتائب”، الحزب “التقدمي الاشتراكي”، الحزب “السوري القومي الاجتماعي”، تيار “المردة”، حركة “أمل”، حزب “القوات اللبنانية” و”حزب الله”…

أما عن العائلات السياسية فحدث ولا حرج، اذ تحت شعار البيوتات السياسية أُخليت الأحزاب من الكفاءات المنتجة والخبرات المتراكمة والطاقات البشرية المجددة والمتجددة بفكرها وأسلوبها، لتنتقل الزعامة إلى الأبناء والأحفاد وبعض الأحزاب تفاخر ببلوغه الجيل الرابع في التوريث السياسي.

الجميل، جنبلاط، فرنجية، كرامي، بري، شمعون، إرسلان… بعض الزعماء أو مَنْ يدورون في فلكهم كنسائهم وأزواج بناتهم وأقاربهم يتربعون على عرش الطائفة والحزب ومراكز القرار كملهمين ومنقذين وحيدين لشعوبهم ومؤيديهم كنصرالله وعون وجعجع وبقرادونيان وغيرهم، ولكن كيف لأحزاب وحزبيين خاضوا حروباً طائفية قتلت وذبحت وهجرت وفرزت مذهبياً ومناطقياً وفتكت بمؤسسة الجيش أن تبشرنا ببناء الدولة والمؤسسات وتعدنا بحماية الدستور وتطبيق القانون وتحقيق رفاه شعب لطالما شكَّل وقود معاركها العبثية؟

مراحل سقوط الدول

وكأنَّ ابن خلدون استشرف الحالة اللبنانية منذ حوالي سبعة قرون مضت، فقد تحدث في كتابه “المقدمة” عن مراحل سقوط الدول، ووفقاً لما قاله فإنَّ هناك خمس مراحل في عمر الدول تفضي المرحلة الأخيرة منها إلى انهيار الدولة، وبينما تتسم الفترة الأولى بالنصر والتأسيس، تشتهر المرحلة الأخيرة بالانغماس في الشهوات والملذات وإشباع الرغبات.

وفي هذا الاطار، قال ابن خلدون: “إن تدهور الدولة يبدأ في مؤسستين: المؤسسة العسكرية والجيش (التي تمثل العصبية أي الهوية) والأموال والممتلكات (التي تمثل الرعاية الاجتماعية) فالضغط والاستبداد يفسدان الجيش، والترف والبذخ يفسدان الرعاية الاجتماعية”. كما قال: “إن حكم الفرد الواحد في الدولة لا يشير إلى هِرَم الدولة فحسب، بل يستهلك وسائل التبرع والرعاية الاجتماعية، وفي مثل تلك الأوقات، يزيد البذخ ولا تكفي الرواتب وتعاني خزائن الدولة من عجز ولا يتسنى تغطية نفقاتها، وهكذا ومن خلال التخفيضات في الإنفاق العسكري تتجلى مظاهر الضعف في النواحي الدفاعية للدولة وتصبح غير قادرة على تغطية تكاليفها. ولتقليص العجز تفرض الدولة ضرائب جديدة تعسفية وتزيد معدلات الضرائب القائمة، والأهم لا تنخفض تكاليف حياة البذخ والترف والفساد بل تواصل الارتفاع ويستمر هذا الوضع حتى تنهار الدولة”.

ولاحظ ابن خلدون “أن الدول تمر بتطورات عدة من ناحيتين هما: الأحوال العامة من السياسة والاقتصاد والعمران والأخلاق، والتطورات التي تحدث من ناحية العظمة والقوة والاتساع. ويقرر أن كل دولة تنتقل بين خمسة أطوار هي: الظفر، ثم الانفراد بالمجد، ثم الفراغ والدعة، ثم طور القنوع والمسالمة، ثم الإسراف والتبذير”.

وربط ابن خلدون أطوار الدولة الخمسة بثلاثة أجيال فقط، فالجيل الأول يقوم بعملية البناء والعناية، والجيل الثاني يسير على خطى الجيل الأول من التقليد وعدم الحيد، أما الجيل الأخير فيمكن تسميته بالجيل الهادم، “إذ إن الدولة لها أعمار طبيعية كما للأشخاص الطبيعيين”.”.

عاش لبنان ثلاث مراحل ذهبية يمكن وصفها بالتأسيس والبناء والازدهار، المرحلة الأولى هي الشهابية التي أسست لبناء دولة المؤسسات والقانون منذ تولي الرئيس فؤاد شهاب رئاسة الجمهورية عام 1958. المرحلة الثانية والتي سميت بالعصر الذهبي للبنان الذي لقب بـ “سويسرا الشرق” عام 1974. أما المرحلة الثالثة فهي عصر بناء البشر والحجر على السواء عقب الحرب الأهلية التي لم تبخل بتمزيق مقومات الدولة كافة، قادها الرئيس رفيق الحريري التي امتدت بين عامَيْ 1992 و2004. وهكذا يبدو واضحاً وفقاً لما حدده ابن خلدون في مراحل سقوط الدول أن ساسة لبنان وتجار الطوائف الذين دهسوا حياة اللبنانيين بكبريائهم وجبروتهم من أجل الحفاظ على عالمهم في بلاد العجائب التي جاع أهلها وزادت ثروات حكامها غير عابئين بما آلت إليه أحوال البلاد والعباد من جراء ما اقترفت أيديهم من سرقة واستغلال واحتيال للجلوس على مقاعد الحكم والسلطة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولم يكتفوا بما صنعت أيديهم من قارعة أصابت سويسرا الشرق، بل سنّوا القوانين التي تحميهم من أي محاسبة واختلسوا أموال الشعب التي صرفوها من أجل تحقيق رفاه زوجاتهم وأبنائهم الذين تابعوا تحصيلهم العلمي في الخارج فوق أنقاض المدرسة الرسمية التي دمرها آباؤهم الذين إن أصابتهم لسعة حشرة عالجوها في مستشفيات الخارج على نفقة مرضى الداخل الذين يئنون تحت ركام الأمراض التي لا يجدون لها علاجاً، فالدواء والمستشفى ليسا حقاً لأي كان، ثم لا بأس إن لم يجد الرُضَّع حليباً مدعوماً فهم يتحملون وزر مجيئهم إلى وطن ساسة لبنان وعائلاتهم.

عندما تنهار الدول

عندما اندلعت الحرائق أو افتعلت أواخر العام 2019 خرج نائب سابق عن “التيار الوطني الحر” مستهجناً اندلاعها في مناطق مسيحية دون إسلامية وهو ما استدعى ردوداً ساخرة حدَّ القسوة. وتوالت الأحداث والوقائع منها ثورة 17 تشرين، وباء كورونا، عواصف وحشرات، خطابات الزعماء، الانهيار المالي وتفجير مرفأ بيروت وغيرها من اليوميات اللبنانية التي أثارت السخرية وأُطلقت في سياقها النكات الضاحكة واستحضرت في طياتها الحكايات الهزْلية، كما كثُر المحللون والمتخصصون في مختلف القضايا والمجالات خصوصاً إبان سقوط العملة الوطنية واستفحال الأزمة السياسية، هذه هي إذاً إحدى أوجه سقوط الدول. ووفقاً لابن خلدون “عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والشحاذون والمنافقون والمدعون والكتبة والقوالون والمغنون النشازون والشعراء النظامون والمتصعلكون وضاربو المندل وقارعو الطبول والمتفقهون وقارئو الكف والطالع والنازل والمتسيسون والمداحون والهجاؤون وعابرو السبيل والانتهازيون… تتكشف الأقنعة ويختلط ما لا يختلط، يضيع التقدير ويسوء التدبير وتختلط المعاني والكلام ويختلط الصدق بالكذب والجهاد بالقتل.

عندما تنهار الدول تتفتق الفرائض ويسود الرعب ويدلهم الأفق وتطول المناظرات ويلوذ الناس بالطوائف وتظهر العجائب وتعم الاشاعة ويتحول الصديق إلى عدو والعدو إلى صديق ويعلو صوت الباطل ويخفت صوت الحق وتظهر على السطح وجوه مريبة وتختفي وجوه مؤنسة وتشح الأحلام ويموت الأمل وتزداد غربة العاقل وتضيع ملامح الوجوه ويصبح الانتماء إلى القبيلة أشد التصاقاً وإلى الأوطان ضرباً من ضروب الهذيان، ويضيع صوت الحكماء في ضجيج الخطباء ويسود الهرج في الأسواق والمزايدات على الانتماء ومفهوم القومية والوطنية والعقيدة وأصول الدين ويتقاذف أهل البيت الواحد التهم بالعمالة والخيانة…!

عندما تنهار الدول تسري الإشاعات عن هروب كبير وتحاك الدسائس والمؤامرات وتكثر النصائح من القاصي والداني وتطرح المبادرات من القريب والبعيد ويتدبر المقتدر أمر رحيله والغني أمر ثروته ويصبح الكل في حالة تأهب وانتظار ويتحول الوضع إلى مشروعات مهاجرين ويتحول الوطن إلى محطة سفر والمراتع التي نعيش فيها إلى حقائب والبيوت إلى ذكريات والذكريات إلى حكايات”.

انهار لبنان وما انخدشت مشاعر سياسييه ولا يزالون يتغطرسون وكأنهم في المدينة الفاضلة يعيش أبناؤها برفاه ورخاء ومثالية واكتمال أخلاقي متناسين حجم الدمار المادي والمعنوي الذي يعانيه الشعب اللبناني، هذا الشعب الذي لا بدَّ من أن يصرخ مطالباً برحيل السلطة الحاكمة، كل السلطة الطائفية البغيضة الكاذبة ذات الرائحة السمسرية الصفقاتية النتنة التي تتجاهل آلام شعبها وتكمل حياتها كأن بلداً لم يسقط، كيف لا ولا يزالون يحتفظون بعبيدهم، هؤلاء العبيد الذين قال فيهم ابن خلدون “لو خيّروني بين زوال الطغاة أو زوال العبيد لاخترت بلا تردّد زوال العبيد، لأنّ العبيد يصنعون الطواغيت”.

يا ساسة لبنان وتجار الطوائف إرحلوا فإنكم مقرفون تثيرون اشمئزاز المريض والطبيب، المهاجر والمقيم، الجائع والمتخم، الطالب والأستاذ، القاضي والجلاد، التراب والحجر والأرض والسماء. إرحلوا فإنكم حقاً مقرفون.

شارك المقال