سلامة يغادر الحاكمية محصّناً بالصندوق الأسود (٢/٢)

زياد سامي عيتاني

على الرغم من وداعه بـ”الزفة”، ونشر آخر صور له في مكتبه قبل مغادرته بدقائق وهو يدخن “السيجار” الكوبي الفاخر، للظهور بمظهر المطمئن والواثق (!) كان يمكن لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي تبوأ منصب حاكم مصرف لبنان في آب 1993 ومددت ولايته 4 مرات (1999 و2005 و2011 و2017)، أن ينشر مذكرات مسيرته الحافلة بحصد الألقاب والجوائز العالمية، ليس كصاحب أطول ولاية فحسب، بل كواحد من “أفضل 6 مصرفيين في العالم”، وأول حاكم مصرف عربي يفتتح بورصة نيويورك في 2009.

لكن سلامة غادر منصبه وبحقه مذكرة توقيف دولية، ومثقلاً بالكثير من الدعاوى القضائية الداخلية والخارجية، بحيث أن القضاء الفرنسي حجز على أصول له وممتلكات تقدر بعشرات ملايين اليوروهات، تشمل شققاً فاخرة في أوروبا وحسابات مصرفية، وثمة اشتباه بحصوله عليها في عمليات اختلاس ضخمة من الأموال العامة في لبنان.

وكانت ألمانيا ولوكسمبورغ وفرنسا أعلنت في آذار 2022، تجميد 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية، إثر تحقيق إستهدف سلامة ومقربين منه، بينهم شقيقه رجا ومساعدته الشخصية ماريان الحويك التي وجّه القضاء الفرنسي اليها اتهامات بالفساد المالي.

سلامة الذي اشتهر بمقولة “الليرة بخير”، أرسى تثبيتها عند 1507 ليرات للدولار بعد الحرب الأهلية، وهندس السياسات المالية للبنان، وها هو ينهي ولايته الخامسة بخسارة الليرة 98% من قيمتها منذ خريف 2019.

سلامة سيتحول إلى تاريخ يرويه، كل طرف بحسب أهوائه، إذ لا تاريخ موحداً يجمع اللبنانيين، منذ نشأة لبنان الكبير، لا سيما وأنه “حامل أسرار” كل الثروات الباهظة وكيفية جنيها وتحويلها إلى الخارج، لكل من تعاطى الشأن العام من أصغر موظف إلى أكبر الحكام.

تعامل مع كل التهم التي وجهت إليه والدعاوى القضائية سواء في لبنان أو في الخارج برباطة جأش متمرس عليها بتفوق يشهد له، بحيث ينفي التهم الموجهة إليه، ويعتبرها سياسية لتشويه صورته.

ففي الوقت الذي يُحَمّل سلامة مسؤولية أساسية عن الوضع الحالي وعن إنهيار الليرة، يؤكد أن غياب سياسات إصلاحية وإنقاذية من الحكومات المتعاقبة وتمدّد سياسات الهدر في البلاد هي التي أوصلت الأمور الى ما هي عليه. ويشير في إحدى مقابلاته الأخيرة، الى أن هناك أطرافاً في البلاد أرادت تدمير “النموذج” من دون أن يكون لديها بديل عنه، وقد نجحت في ذلك، (بحسب قوله)، من دون أن يسمّي من يقصد، لأن تمييع المسؤوليات وإلقاء اللوم على “أطراف” مجهولة وتقاذف المسؤوليات، هو من “عدة شغل” المنظومة السلطوية في لبنان.

يمكن تقسيم الأعوام الـ30 التي قضاها سلامة كحاكم لـ”المركزي” إلى ثلاث مراحل أساسية:

– المرحلة الأولى منذ عام 1993 إلى عام 2005، بدأت مع إقتران إسمه برئيس الوزراء الشهيد رفيق الحريري الذي كان سلامة أحد أبرز معاونيه في تنفيذ برنامجه لإعادة إعمار لبنان.

ونجح في ضبط قيمة الليرة اللبنانية، وبرع أيضاً في الحفاظ على موقع مستقل عن جميع الأطراف على الرغم من علاقته بالحريري، إذ نجح في إقناع الجميع بأن هدفه الأساس والأوحد هو الاستقلال بالسياسة النقدية للبلاد عن حكومة الغالبية أياً كانت.

– المرحلة الثانية كانت من 2005 إلى 2018، وشهدت إستقراراً نسبياً، وعرفت بـ”الهندسات المالية”، ونال سلامة خلالها جوائز عدة كأفضل حاكم مصرف مركزي في العالم، وتميزت بإستقطاب كبير للودائع الأجنبية، التي وصلت كحد أقصى عام 2017 إلى 183 مليار دولار، وفق تقارير مصرف لبنان نفسه.

منذ إندلاع النزاع في سوريا عام 2011، إضافة إلى التداعيات الاقتصادية بدأت التدفقات الدولارية بالتراجع، وذلك على الرغم من الحجم الكبير للودائع في البنوك، الأمر الذي دفعه الى تقديم خطة “هندسة مالية” بلغت قيمتها 13 مليار دولار، والتي تقدم سندات حكومية للبنوك مقابل العملة الأجنبية التي تتلقاها من الودائع. وقد سمح ذلك للبنوك بتقديم أسعار فائدة أعلى على الودائع بالدولار وصلت إلى 9.7 في المئة بحلول العام 2019، بينما تضخم الدين الوطني.

– المرحلة الثالثة تزامنت مع الانهيار الاقتصادي الذي شهدته البلاد، ووصفه البنك الدولي بأنه من أسوأ ثلاثة إنهيارات اقتصادية في العالم منذ 150 عاماً، بحيث انهار استقرار سعر صرف الليرة، وإحتجزت الودائع في المصارف نتيجة بروز الفجوة المالية، والتي يقدرها صندوق النقد الدولي بنحو 70 مليار دولار.

وخلال هذه المرحلة سقط نجم سلامة الحائز عشرات الجوائز والميداليات العالمية، ليصبح متهماً وملاحقاً بنشرات حُمر صادرة من الانتربول الدولي، بعد سلسلة دعاوى فساد وإختلاس في حقه، في أكثر من دولة أوروبية وغربية. وطيلة مرحلة الانهيار، كان سلامة يصر على نفي مسؤوليته عن الأزمة، مدعياً أنه كان ضحية “حملة” سياسية تهدف إلى تقديمه ككبش فداء!

ودفع شح العملة الصعبة البنوك الى فرض قيود على سحب اللبنانيين لأموالهم، أو تحويلها إلى الخارج. وتزامن ذلك مع ركود اقتصادي غير مسبوق، فقد على أثره لبنان الثقة الخارجية، عندما أعلنت حكومة حسان دياب، (خلفت حكومة سعد الحريري، الذي قدم إستقالته لعدم التجاوب مع الخطة الاصلاحية التي طرحها) إمتناع لبنان في آذار 2020 عن تسديد فوائد ديونه (هي عبارة عن سندات يوروبوند تحوز المصارف الخاصة والمصرف المركزي جزءاً منها، وتبلغ قيمتها وحدها 39 مليار دولار)، ثم توقيع حكومته طلب مساعدة من صندوق النقد الدولي.

إلا أن المنصة عجزت عن تأدية وظيفتها الأساسية لجهة ضبط سعر الصرف، والقضاء على السوق السوداء وسط الاشكالية النقدية المحورية حول دورها الذي أورثته للمصرف للمركزي، والذي بقي سرها حكراً على سلامة نفسه.

بعد ثلاثة عقود من الحاكمية، وثلاث سنوات من الانهيار المالي والاقتصادي في لبنان، غادر رياض سلامة الموصوف بأنه “أقوى رجل في لبنان”، بهدوئه الموصوف مصرف لبنان والمنصة التي أنشأها، الى الوجهة التي سيختارها لنفسه، محصّناً ليس بالقانون، بل بـ “الصندوق الأسود” الذي حمله معه، ويحتوي أسراراً تفوق قيمتها إحتياطي مصرف لبنان من الذهب (!) ليبقى الانهيار العظيم مستمراً، حتى يبلغ منتهاه.

شارك المقال