مرفأ بيروت… قبلة الدول المتصارعة للسيطرة على الشرق

زياد سامي عيتاني

مرفأ بيروت الذي يعود تاريخه إلى آلاف السنين، ونال على مر العصور أهمية كبيرة، كان السبب في إنشاء بيروت وتكوينها وتطويرها، تلك المدينة الضاربة جذورها في عمق التاريخ والجغرافيا.

أهمية هذا المرفأ الذي تطور على يد الحضارات التي نشأت في المنطقة، وبالتالي الدول التي توالت على إستعمارها وحكمها، أنه كان على الدوام قبلة الدول المتصارعة للسيطرة على الشرق، وطوّرته الحضارات والدول التي حكمت لبنان لاحقاً، وذلك لأهداف تجارية وعسكرية، إذ اعتبر محطة مهمة لسلاسل الامداد العالمية، نظراً إلى موقعه الجغرافي الاستراتيجي على ضفاف البحر المتوسط، خصوصاً أنه كان يتميز منذ القدم بأنه من أكثر الموانئ صلاحية لرسو السفن، وهو الميناء الذي تجد فيه المراكب الأمان في جميع الفصول.

بعد مضي ثلاث سنوات على تفجير مرفأ بيروت، لا نحتاج إلى إستحضار هذه الفاجعة، لأنها راسخة في نفسنا وذاكرتنا الجريحتين، بل ما نحتاج إليه هو إستحضار تاريخ المرفأ وأهمية دوره من العهد الفينيقي حتى ما قبل تدميره، في ظل التقاعس المتمادي والمتعمد عن إعادة إعماره! لذلك سوف نتناول جوانب تاريخ هذا المرفأ وأهميته على مدى العصور.

النشأة:

نشأ في بيروت مرفأ مهم منذ العهد الفينيقي، على غرار مرافئ صيدا وصور وطرابلس وسواها، فقد ذُكِر إسم مرفأ بيروت لأول مرة في الكتابات المتبادلة بين الفراعنة والفينيقيين التي يعود تاريخها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد.

الموقع:

يقع مرفأ بيروت في الجزء الشرقي من خليج سان جورج على ساحل بيروت، شمال البحر الأبيض المتوسط وغرب نهر بيروت، على مساحة إجمالية تبلغ 1.2 كيلومتر مربع، نصفها منطقة حرة، وذلك ضمن خط طول 35 و57 درجة شرقاً، وخط عرض 35 و15 درجة شمالاً، ما يشكل نقطة الوسط بين ثلاث قارات أوروبا وآسيا وأفريقيا، وجعلت منه ممراً لعبور أساطيل السفن التجارية بين الشرق والغرب.

تكوين هويته الاقتصادية:

منذ العصر الروماني تشكّلت هويته الاقتصادية، إذ عرف بكونه مركزاً تجارياً واقتصادياً مهماً.

دمرت الزلازل المستعمرة الرومانية عام 551، وبقيت في حالة خراب حتى جاءها المسلمون عام 635 في العصر الأموي وأعادوا بناء المدينة ليصبح المرفأ مركز الأسطول العربي الأول. كما اتخذها الافرنج مقراً لسفنهم وعساكرهم..

ولما خضعت بيروت للحكم الإسلامي، كان ميناؤها مركزاً لصناعة السفن لا سيما في عهد معاوية بن أبي سفيان.

المرفأ الأصلح لرسوّ السفن:

أشارت الدراسات التاريخيّة والتقارير القنصليّة إلى أن مرفأ بيروت كان منذ القِدم من أكثر الموانئ صلاحية لرسوّ السفن، فكانت ترسو قديماً في داخله، ويضع البيارتة العاملون في المرفأ “السقالات” وهي ألواح عريضة من الخشب، ليستعملها المسافرون جسراً للنزول إلى البر، وإنزال البضائع على الرصيف.

أما السفن الكبيرة القادمة إلى المرفأ، فكانت تقف في الصيف تجاه بيروت، في حين تضطر في الشتاء الى الالتجاء إلى خليج الخضر قرب الكرنتينا، أو عند مصب نهر بيروت.

المصدر: مجموعة أمين معاز‎

من يستولي على المرفأ يسيطر على بيروت:

كان مرفأ بيروت من المراكز الاستراتيجيّة المهمة في المنطقة، ذلك أن من يستولي عليه يستطيع التقدم نحو المدينة وبقية المناطق، لأن أكثر العمليات العسكرية كانت تتم عبر البحر، وبعضها الآخر بالبر. ولهذا حرص الافرنج في العصور الوسطى بعد سيطرتهم على بيروت ومدن الساحل، على الإهتمام بتحصين مرفأ بيروت، وبالتالي تحصين المدينة، ليتمكنوا من الدفاع عنها.

وفي عهدهم كان لميناء بيروت دور مهم في التجارة البحرية بين الشرق والغرب (خصوصاً بين بيروت والمدن الإيطالية)، وإستمر كذلك حتى العصر المملوكي عندما كان الميناء الرئيس لتجار التوابل.

ولما إستعاد المسلمون بيروت ومدن الشام، حرص الأمير بيدمر الخوارزمي، الذي توفي سنة 1387م، على الاهتمام بمرفأ بيروت وتحسينه، لا سيما وأنه استخدمه لصناعة السفن الحربيّة، فأمر بقطع الأخشاب من حرج بيروت، وصنعها ما بين المسطبة (المصيطبة اليوم) وساحة بيروت والميناء.

خلال الحكم العثماني عام 1516، تراجعت الأهمية التجارية للمرفأ، لكن مع سماح النظام السياسي الجديد بالتجارة الحرة في عهد المتصرفية وتطوّر الملاحة البخارية بحلول القرن السابع عشر أصبح الوجهة الرئيسة لمنتجات الحرير التي كانت تمثّل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني، بحيث كانت تعمل ما لا يقل عن عشرة خطوط للملاحة البخارية بانتظام من مرفأ بيروت.

وهكذا باتت بيروت مركزاً مهماً في حركة الإستيراد والتصدير، ما أدى إلى تدفق السلع الأوروبية إلى السوق اللبنانية، والعكس صحيح. عندها شعر العثمانيون بأهمية المرفأ، وكذلك الدول الأجنبيّة، سواء على الصعيد الاقتصادي أم على الصعيد الاستراتيجي، ولهذا بدأت أهمية بيروت كمدينة ناشئة تظهر بوضوح.

في العام 1887 منحت الدولة العثمانية امتياز تأسيس المرفأ لشركة عثمانية من خلال إنشاء سدّ بحري لتوسيع الميناء وتطويره، واحتفل بمناسبة هذا الإنجاز في نهاية العام 1894.

بعد مضي ثلاث سنوات على الزلزال “المفتعل” والمتعمد، الذي دمر مرفأ بيروت بـ”نيترات” الكراهية والابادة الجماعية، فيما جريمة العصر لا تزال غارقة في بحر بيروت، حيث تتقاذفها الأمواج العاتية إلى المجهول – المعلوم (!) يبقى السؤال: “هل كان تفجير المرفأ، لإزالة بيروت عن الخريطة السياسية والجغرافية والإقتصادية؟

كلمات البحث
شارك المقال