الحسم يقترب… هل نفقت ثعالب بري؟

أنطوني جعجع

في ذكرى اختفاء الامام موسى الصدر لا بد من سؤال بديهي: هل لا يزال الشيعة في ظل ايران وقبلها سوريا كما كانوا قبلهما، وتحديداً “خليفته المدنية” الرئيس نبيه بري الذي يقترب تدريجاً من قوس المحاسبة محلياً واقليمياً ودولياً بعد عقود من المناورات و”الثعلبات” التي كانت ترافق مواقفه وبصماته في كل شأن داخلي أو خارجي؟

لا شك في أن المحامي المغمور في بدايات الحرب اللبنانية، تمكن بفضل علاقاته مع “الأبوات” الفلسطينيين من تكوين حيثية شيعية على أطراف الحيثية التي كان يتوجها الامام الصدر على المستوى العقائدي والاقطاعيون الشيعة على المستوى السياسي.

ولن ندخل هنا في تفاصيل المسار الذي سلكه الرجل قبل الوصول الى رئاسة البرلمان في بداية تسعينيات القرن الماضي، وهو مسار انتقل به من البندقية الفلسطينية التي أدماها لاحقاً في “حرب المخيمات”، إلى البندقية السورية التي رأت فيه سداً يُعتد به في مواجهة بقايا ياسر عرفات و”حزب الله” والنفوذ الايراني الزاحف بخطى واثقة نحو بيروت.

ولا يخفى على أحد أن بقاء بري وحركة “أمل” في قلب المعادلة السياسية والعسكرية والشيعية، يعود الى الجيش السوري الذي ناصره في اللحظة الأخيرة من خلال تدخل عسكري مباشر وعنيف ضد رجال حسن نصر الله الذي ابتلع على مضض تلك الشاحنة السورية التي نقلت اليه جثث العشرات من مقاتليه.

ولا يخفى على أحد أن سوريا التي أدمت “المقاومة الاسلامية” مباشرة خلال “حرب الأخوة” ثم بالواسطة على طريق المطار، أبعدتها باتفاق مع أميركا عن السلطة التنفيذية وحصرت مهامها بموضوع الصراع مع اسرائيل، وجعلت بري مرجعها الشيعي الأوحد في كل تفاصيل الحياة السياسية في لبنان أو معظمها.

والواقع أن حسن نصر الله لم ينسَ ذلك، واستفاد لاحقاً من انسحاب الجيش السوري من لبنان، ثم اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، للتقدم بخطى سريعة نحو السلطة في لبنان، متجاوزاً في سطوته موقع بري وسطوة النظام الحاكم في دمشق.

والواقع أيضاً أن بري يعرف أن “حزب الله” تقدم عليه في مجالات التأثير والنفوذ والانتشار والمال والهيبة والسلطة، لكنه كان يعرف أن حسن نصر الله لم يصل بعد الى الفرصة الحتمية التي تفرض شن “حرب الغاء” ضد حركة “أمل” تشبه ما حاول أن يفعله الجنرال ميشال عون ضد “القوات اللبنانية” في ثمانينيات القرن الماضي.

ويعرف بري أيضاً، أن موقعه في رئاسة البرلمان يمنع “حزب الله” من التعرض له، لأنه لا يملك البديل أولاً، ولأن وجود حزبي من رجال حسن نصر الله في هذا الموقع الحساس ثانياً ليس أمراً يمر بسهولة على أكثر من جبهة وأكثر من مستوى، فذلك يعني عملياً أن لبنان تحول الى ولاية ايرانية في العمق ومتنوعة في الظاهر.

وهنا يجوز القول الرائج: لقد عرف “الحبيب بري” مكانه فتدلل، واستغل هذا الواقع محاولاً انتزاع أكبر مقدار من المواقع الموالية له، في مقابل تمريرات وواجهات داخل البرلمان وخارجه تخدم مشاريع “حزب الله” ولا تعترض استراتيجيته المحلية والاقليمية لا من قريب ولا من بعيد، وهو ما برز جلياً في عمليات اقفال البرلمان أو تعطيل النصاب منذ العام ٢٠٠٥ حتى يومنا هذا، وفي ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، وفي مشاركته الفاعلة والمباشرة في “غزوة السابع من أيار” وفي ضرب “ثورة السابع عشر من تشرين”.

لكن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه بري، كان امتناعه عن ارسال عناصر من حركة “أمل” للقتال الى جانب الرئيس بشار الأسد في سوريا خلافاً لما فعله “حزب الله”، الأمر الذي قيل انه وتر العلاقة بين الرجلين الى حدود التهديد بالاغتيال.

أما وقد هدأت الأمور مع دمشق ظاهرياً، فقد سحب بري أرنباً من كمه في محاولة لاستعادة الحرارة مع الرئيس السوري ونظامه، فأطلق اسم سليمان فرنجية مرشحاً وحيداً الى رئاسة الجمهورية اللبنانية وسعى جاهداً الى منع سواه من الوصول الى بعبدا متحدياً القسم الأكبر من المسيحيين، ومتجاهلاً القسم الأكبر من السنة الذين يبحثون عبثاً عن مرجعية راعية بعد اعتكاف الرئيس سعد الحريري.

وأكثر من ذلك، أخذ بري بصدره عمليات التأجيل والتعطيل، في مقابل عدد من المطالب وفي مقدمها سحب اللواء عباس ابراهيم من المعادلة الشيعية المنافسة، وتعطيل التحقيق في مجزرة “الرابع من آب”، وإبعاد الملاحقة والمساءلة عن رجاله المتورطين مباشرة أو غير مباشرة في تفجير المرفأ، والسيطرة على مفاتيح المال في الدولة من خلال السيطرة على وزارة المالية وعلى موقع المدعي العام المالي، وأخيراً حاكمية مصرف لبنان بالانابة.

وأكثر من ذلك أيضاً، يتصرف الرجل وكأنه الحاكم الأوحد في البلاد، وأن لا قرار يتخذ من دون استشارته، وأن أي حل لا يرى النور الا اذا كان من صنعه، فتحول مقره في عين التيتة الى محور كل لقاء أو قرار أو استكشاف يجريه رئيس حكومة أو زعيم سياسي أو سفير عربي أو دولي أو موفد رئاسي أو ديبلوماسي غربي.

وهنا وقع بري في خطأ آخر، وهو المشاركة مع حسن نصر الله في “تغيير” هوية لبنان من خلال تركيبات حزبية ومذهبية فاضحة، وانتخاب رئيس يتبنى، أو لا يعرقل على الأقل، الهيمنة الشيعية المطلقة على لبنان، الأمر الذي جعله في حسابات أوروبا وأميركا حليفاً عضوياً لـ “حزب الله” المدرج على لوائح الارهاب في أكثر من سبعين دولة.

ويقول مصدر ديبلوماسي غربي: “ان بري لم يقرأ جيداً ماذا يدور في المنطقة والعالم، وماذا يعترض ايران وحزب الله من تطورات وتحديات، وراح يواصل التصرف وفق أداء مستهلك لم يعد ينطلي على أحد، وهو أداء حرّك الكونغرس الأميركي ودوائر الاتحاد الأوروبي نحو التعامل معه على غرار التعامل مع حسن نصر الله لا بصفته حيثية شيعية متمايزة أو مستقلة”.

ويقول مصدر أميركي في هذا السياق: “ان بري لا يزال يقرأ في كتابه القديم، أي اللجوء الى الثعلبة بدل الغلبة في بعض المفاصل لاستيعاب أي اجراء سلبي من الأميركيين أو سواهم تماماً كما فعل في الجلسة الانتخابية الرئاسية الأخيرة، لكن ذلك لم يمر على صانعي القرار دولياً وعربياً ودفع الى التفكير جدياً في اجراءات أحلاها العقوبات وأمرها العزلة التامة”.

ويضيف: “ان على بري الذي قال في حزب الله عبر ويكيليكس ما لم يقله حتى أشد أعدائه، أن يدرك أن الظروف الاقليمية والدولية لم تعد تسمح بمزيد من المناورات والمماطلات، وأن لبنان لم يعد قادراً على تحمل هذا الفراغ القاتل الذي يحوله الى اقليم ايراني مطلق”، معتبراً أن عليه الاختيار بين التصرف كرجل دولة أو كرجل ميليشيا.

ولم يستبعد المصدر أن يكون الموفد الأميركي آموس هوكشتاين قد نقل الي بري جواً أميركياً سلبياً دفعه الى اتباع “لغة توافقية” مع المعارضة، مشيراً الى أن وزير الخارجية الايرانية حسين أمير عبد اللهيان حط في عين التينة لتطويقه وثنيه عن أي اجراء يمكن أن يخدم الاستراتيجية الأميركية دون سواها، بعدما نجحت طهران في خربطة الاستراتيجية الفرنسية وتحييد الاستراتيجية العربية.

وسط هذا المشهد لا يبدو بري في وضع مريح، فهو عالق بين ملامح عقوبات أميركية وأوروبية تضغط عليه لتحقيق أمرين: تسهيل انتخاب رئيس وسطي وتسهيل ترسيم الحدود البرية مع اسرائيل، وعالق أمام “حزب الله” الذي لا يمزح في أي أمر يخدم استراتيجيته العقائدية والسياسية والأمنية، وعالق أمام الرئيس بشار الأسد الذي لم يبدِ حماسة لترشيح فرنجية، ويصطدم الآن ببداية ثورة جديدة بعدما منعته ايران من تلبية مطالب كانت أساس مصالحات أجراها مع السعودية والعالم العربي، وعالق أمام معارضة داخلية تعتبره طرفاً لا حكماً في الكثير من الأمور الوطنية المصيرية في البلاد.

وهنا لا بد من الاضاءة على واقع آخر، على الرئيس بري أخيراً أن يأخذه في الاعتبار، وهو التعديلات في مهام “اليونيفيل” و”الحقل التاسع” في الجنوب، أي الحقل الذي نقل لبنان من “محمية شيعية” الى محمية عالمية لا تقبل أي “ثعلبات” أو مغامرات في عالم بات يعتبر قطرة نفط أو غاز أكثر ثمناً من أي قطرة دماء.

شارك المقال