ما الذي تعلمته موسكو في أوكرانيا؟

حسناء بو حرفوش

ما الذي تعلمته موسكو في أوكرانيا؟ سؤال تجيب عنه قراءة في موقع مجلة “فورين أفيرز” من خلال تحليل وتيرة الهجوم المضاد والتحديات العسكرية والسلوك العسكري المتغير منذ بداية الغزو.

ووفقاً للمقال، “تحرك الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا بشكل أبطأ مما كان يأمله العديد من حلفاء البلاد. وأثبت الجيش الأوكراني مهارة ملحوظة في الدمج السريع للقدرات والتقنيات الجديدة في عملياته، والقتال بشجاعة وفعالية في الأغلب ضد عدو يفوقه عدداً ولا يكترث كثيراً لخسائره. ومع ذلك، كان التقدم تدريجياً، وأتت كل معركة تحرير بتكاليف هائلة. ولم تبدأ أوكرانيا بإحراز تقدم أكبر إلا بعد ثلاثة أشهر من القتال العنيف، فاخترقت بعض الخطوط الدفاعية الروسية الراسخة في جنوب شرق البلاد واستعادت الأراضي في إقليمي زابوريزهيا ودونيتسك.

ويرجع بعض المحللين بطء وتيرة الهجوم المضاد الى التحديات المتمثلة في التنفيذ الناجح للمناورات العسكرية المشتركة أو تنسيق المدفعية والمشاة والقوة الجوية، بينما يتساءل آخرون عن ملاءمة التدريبات التي قدمتها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي – التي ركزت على القيام بعمليات هجومية سريعة بدلاً من إرهاق الجيش الروسي من خلال الاستنزاف – لنوع العدو والحرب التي يخوضها الأوكرانيون. ولا يزال آخرون يزعمون أن حلفاء كييف الغربيين كانوا بطيئين للغاية في توفير الأسلحة والمعدات، الأمر الذي أدى الى تأخير الهجوم الأوكراني المضاد وسمح لروسيا بتحصين مواقعها وزرع الألغام في مساحات كبيرة من الأراضي المتنازع عليها. وأخيراً، ليست المؤسسة العسكرية الأوكرانية قوية على غرار حلف شمال الأطلسي. وعلى الرغم من أن هذا لا يشكل بالضرورة نقطة ضعف، يستدعي من حلفاء أوكرانيا الغربيين إعادة النظر في أنواع الأسلحة والمعدات والتدريب.

وتعكس التحديات التي تواجه الجيش الأوكراني سلوك روسيا المتغير. خلال الأشهر الستة إلى التسعة الأولى من الصراع، بدا أن الكرملين لم يتعلم من أخطائه. ولكن منذ ذلك الحين، عكفت القوات المسلحة الروسية على تحسين تكتيكاتها في ساحة المعركة ولو ببطء وبتكلفة كبيرة في الأرواح والموارد، وتعلمت كيفية استهداف الوحدات والأسلحة الأوكرانية بمزيد من الفاعلية وكيفية حماية أنظمة القيادة الخاصة بهم بصورة أفضل. وفي النتيجة، أصبحت روسيا أكثر قدرة على الافادة من مزاياها العددية وقوة نيرانها، فحولت ما كان يأمل الكثيرون أن يكون دفعة هجومية سريعة إلى معركة بطيئة وصعبة.

وفي المقابل، بعد مرور عام ونصف العام على الحرب، عانى الجيش الروسي من الكدمات والارهاق. وتم الاستيلاء على الكثير من المعدات العسكرية الروسية بما في ذلك المركبات المدرعة وأنظمة المدفعية وأنظمة الحرب الالكترونية أو إتلافها. ويستخدم في الحرب العديد من الأسلحة الأكثر تكلفة وتطوراً التي لا تزال في ترسانة روسيا، بما في ذلك الصواريخ عالية الدقة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت، لاستهداف البنية التحتية المدنية، ما يستنزف المخزونات الثمينة التي سيكون من الصعب تجديدها وسط العقوبات. أضف إلى ذلك أنه بعد التمرد الذي قام به رئيس فاغنر الراحل في تموز، تكهن العديد من المحللين بأن الجيش الروسي سيواجه عمليات فرار جماعية من الجيش وحركات تمرد، بل وحتى انهياراً كارثياً.

ولكن على الرغم من ذلك، لا يزال الجيش الروسي قادراً على التعلم والتكيف. وعندما انتقلت الحرب إلى دونباس في أواخر ربيع العام 2022، بدأت روسيا بتكثيف استخدامها لأنظمة الحرب الالكترونية. ونشرت حوالي عشرة مجمعات للحرب الالكترونية (مجموعات من الأنظمة المستخدمة للتشويش على اتصالات العدو وتعطيل أنظمة الملاحة الخاصة به وتدمير أجهزة الرادار الخاصة به على امتداد كل 12.4 ميلاً من خط المواجهة). وبمرور الوقت، انخفضت هذه النسبة، إذ يغطي نظام رئيس واحد تقريباً كل ستة أميال من الجبهة، مع نشر أصول حرب إلكترونية إضافية حسب الحاجة الى تعزيز وحداته.

ولا تزال هذه الأنظمة تعاني من مشكلات، بما في ذلك التغطية المحدودة نسبياً وعدم القدرة على تجنب التأثير على بعضها البعض. ولكن في الاجمال، أثبتت هذه الأسلحة فاعليتها الكبيرة بحيث ساعدت روسيا على إضعاف قدرات أوكرانيا في مجال الاتصالات والملاحة وجمع المعلومات الاستخبارية؛ وإسقاط الطائرات والمسيرات الأوكرانية واعتراض الاتصالات العسكرية الأوكرانية وفك تشفيرها. وحتى الآن، لم تحقق أوكرانيا سوى نجاح محدود في مواجهة هذه القدرات الروسية المعززة.

كما أعاد الجيش الروسي إحياء أصوله في الحرب الالكترونية، وتشكيل بنيته التحتية وعملياته للقيادة والسيطرة، والتي دمرتها أنظمة الصواريخ المدفعية عالية الحركة التي زودتها بها الولايات المتحدة وغيرها من الصواريخ الأوكرانية الدقيقة طويلة المدى خلال صيف العام 2022. وأجرت روسيا عدداً من التغييرات العامة البدائية نسبياً والناجحة مع ذلك، بما فيها سحب مقر قيادتها خارج نطاق صواريخ أرض جو الأوكرانية، ووضع مراكز قيادتها الأمامية تحت الأرض وخلف مواقع شديدة الدفاع، وتحصين مواقع قيادتها الأمامية. كما وجدت روسيا طرقاً لضمان الأمان في الاتصالات بين مراكز القيادة والوحدات العسكرية، بما في ذلك من خلال مد الكابلات الميدانية واستخدام اتصالات لاسلكية أكثر أماناً. لكن الاتصالات على مستوى الكتيبة وما دونها لا تزال في كثير من الأحيان غير مشفرة، ونظراً الى التدريب المحدود، كثيراً ما ينقل الجنود الروس معلومات حساسة عبر قنوات غير آمنة.

ومنذ بداية الحرب وحتى الصيف الماضي، نظّم الجيش الروسي في ما يسمى بمجموعات الكتائب التكتيكية، وهي في الأساس تشكيلات من المدفعية والدبابات والمشاة تم تجميعها لتحسين الاستعداد والتماسك. ولكن في النصف الثاني من العام 2022، مع تطور الصراع إلى حرب استنزاف، أجبرت الخسائر المتزايدة القادة العسكريين في البلاد على تغيير نهجهم. وقاموا بمراجعة تكتيكات المشاة الخاصة بهم ودمجوا مدفعيتهم في ألوية متخصصة وعززوا قوتهم واستخدموا المسيرات لتنسيق ضرباتهم المدفعية وتوجيهها بصورة أكثر فاعلية. ومكّنت هذه التعديلات الجيش الروسي من استغلال ميزتين أساسيتين مقارنة بأوكرانيا: العديد والقوة النارية.

وعلى الرغم من التغييرات الملحوظة خلال العام الماضي، لا يزال هناك العديد من المجالات التي تمثل ثغرات للجيش الروسي بحيث لا تزال القوات المسلحة الروسية غير قادرة على تحقيق التكامل الأفقي بين قيادتها وسيطرتها، ولا يمكنها توصيل قرارات القادة وتبادل المعلومات عبر الوحدات المختلفة في الوقت الفعلي. ونتيجة لذلك، لا تستطيع الوحدات الروسية المنتشرة على مقربة التواصل بصورة فاعلة مع بعضها البعض إذا كانت تنتمي إلى تشكيلات مختلفة. وفي كثير من الأحيان، لا يمكنها دعم بعضها البعض نظراً الى أن قيادتها منفصلة. وهذا ليس خللاً عائقاً بيروقراطياً بل مشكلة بنيوية عميقة من غير المرجح أن تحل من دون إصلاح شامل للمؤسسة العسكرية الروسية، بل وربما حتى لنظامها السياسي. وتساعد أوجه القصور المشابهة في تفسير السبب وراء تعلّم بعض أصعب الدروس الروسية في صراعات أخرى في الشيشان، على سبيل المثال، حول صعوبات حرب المدن، وفي سوريا حول فوائد القيادة والسيطرة المرنة والمستجيبة.

ويعكس بطء وتيرة الهجوم الأوكراني المضاد جزئياً أيضاً الصعوبات الكامنة في تنفيذ عمليات عسكرية هجومية مشتركة واسعة النطاق، فضلاً عن التأخير في تسليم الأسلحة والعتاد إلى القوات على الأرض. لكن من الواضح أن التعديلات التي أجراها الجيش الروسي تعوق التقدم الأوكراني أيضاً. وهذا يعني أن أوكرانيا ستحتاج الى أن يصبر حلفاؤها معها ويحتاج الغرب الى إعادة ضبط توقعاته لتتناسب مع واقع أن هذه حرب استنزاف. وعلى المدى القريب، يجب على دول الناتو الاستمرار في نقل الأسلحة والقدرات الأخرى إلى أوكرانيا. وسوف يتعين عليهم أكثر من أي شيء آخر، منح كييف الدعم السياسي والعسكري على المدى الطويل أيضاً”.

شارك المقال