حوار العصا والجزرة

ياسين شبلي
ياسين شبلي

في بلد غير طبيعي كلبنان، يصبح من الطبيعي أن تنقلب المعايير وتتغير المعاني وتُبتذل القيم لتصبح غير ذات معنى بعد أن تفقد معناها الحقيقي. من ضمن هذه القيم وأهمها ربما، الوطنية والعدل والحق وحتى الأخلاق التي تختفي بمعانيها وسلوكياتها الحقة لتحل محلها سلوكيات “جديدة” هجينة، تحت المسميات نفسها تتماشى مع واقع الحال الجديد فتصبح بعدها “طبيعية”، في حين تغدو كل السلوكيات السابقة “غير طبيعية” بطبيعة الحال.

فالوطنية تصبح وجهة نظر عندما تستمد قوتها من تحالفاتها الخارجية ولو على حساب الآخر في الوطن، وبالتالي تغدو العمالة نكتة ومسخرة عندما تصبح تهمة مبتذلة لكل معارض سياسي، كذلك العدل عندما يقع أسير المصالح والمنافع المتبادلة يتحول الى فعل إنتقائي، وتصبح له معاييره المختلفة المستمدة من سياسة “القبع” التي تؤدي إلى القمع بحق كل من تسوِّل له نفسه المساءلة أو البحث عن الحقيقة. أما الحق فحدث ولا حرج، خصوصاً عندما يبدو يتيماً وحيداً ضعيفاً فتنقلب الأمور من قوة الحق إلى حق القوة المسيطرة على الأرض.

في بلد غير طبيعي كلبنان، يصبح من الطبيعي أن نطالب بطاولة حوار عند كل خلاف صغيراً كان أم كبيراً، بعيداً عن الدستور والقوانين المرعية الاجراء التي من المفروض أنها وُضعت لمعالجة مثل هذه الحالات. من طاولة حوار في ساحة النجمة عام 2006 لبحث الاستراتيجية الدفاعية، إنتهت بحرب مع العدو كانت الدولة فيها وكذلك المتحاورون آخر من يعلم عنها شيئاً، إلى طاولة أخرى في سان كلو بفرنسا عام 2007 لبحث المحكمة الدولية الخاصة بلبنان إنتهت بإجتياح بيروت واحتلالها في 7 أيار 2008، إلى طاولة حوار في الدوحة لبحث إزالة آثار العدوان على بيروت، والاتفاق على رئيس للجمهورية، إنتهت بانتهاك فاضح للدستور وضرب إتفاق الطائف وإدخال هرطقات جديدة على الحياة السياسية اللبنانية كانت كفيلة بالبدء بضرب الأسس التي تقوم عليها الدولة ومؤسساتها، إلى طاولة حوار أولى في بعبدا عام 2009، إنتهت إلى الانقلاب على حكومة سعد الحريري وتشكيل أخرى بقوة “القمصان السود”، إلى طاولة حوار أخرى كذلك في بعبدا عام 2012، إنتهت إلى “إعلان بعبدا” الذي وُلد ليتخلى عنه بعدها البعض من “أهله” فيبدو لقيطاً، ليسارعوا هم إلى سوريا ويخوضوا حربها دفاعاً عن نظام بشار الأسد، ويُدخلوا لبنان في متاهات هو بغنى عنها ليصبح في عين العاصفة الاقليمية ما جرَّ عليه عتب بعض الدول الشقيقة وغضبه، قبل أن يفرضوا عليه “رئيساً قوياً” دعا إلى طاولات حوار سياسية وإقتصادية إنتهت بنا وبالبلد إلى جهنم.

اليوم وبعد كل هذه الطاولات الحوارية، وفي ظل الفراغ الرئاسي الذي هو بالأصل نتيجة هذه الطاولات، التي حلَّت محل الدستور واختزلت الحياة السياسية بقوة الأمر الواقع، يعود الحديث عن طاولة حوار جديدة للاتفاق على مواصفات رئيس الجمهورية في سلوك سياسي يوحي بأن العقلية التي تساس بها الأمور لم ولن تتغير، في تجاهل لأبسط قواعد المنطق الشعبي الذي يقول بأن من “جرَّب المجرب كان عقلو مخرَّب”، كذلك الفلسفي الذي يقول بأن “الغباء هو فعل الشيئ مرتين بالأسلوب نفسه والخطوات نفسها مع إنتظار نتائج مختلفة”. ربما الاختلاف الوحيد هو أن الحوار المطروح هذه المرة مصحوب بالعصا والجزرة معاً، العصا هي حملة التخوين والتهديد التي يمارسها مسؤولو أحد طرفي الثنائي الشيعي بحق المعارضين لمرشحهم، في الوقت الذي يحمل فيه الطرف الآخر الجزرة، وهي الوعد بأن يكون الحوار لمدة سبعة أيام فقط تليه جلسات متتالية ومفتوحة لانتخاب رئيس للجمهورية. ترى لمن ستكون الغلبة هذه المرة للعصا أم للجزرة؟ وهل تحظى “الجزرة” بالدعم الخارجي هذه المرة بعد عجقة الزيارات الأخيرة من آموس هوكشتاين إلى حسين أمير عبد اللهيان، والانطباعات الجيدة التي تركتها وبدت في بعض أوجهها وكأنها كاسحة ألغام تمهد الطريق أمام زيارة جان ايف لودريان لطرح خيار ثالث جامع يتمثل بقائد الجيش، لتكون “العصا” من عدة الاستهلاك السياسي الداخلي لا أكثر؟ لننتظر الأيام المقبلة فقد تحمل إلينا الخبر اليقين.

شارك المقال