بشير الجميّل في عيون المسلمين!

جورج حايك
جورج حايك

لا شك في أن هناك أكثرية مسيحية في لبنان تعتبر أن بشير الجميّل كان قائداً تاريخياً، يقول الحقيقة مهما كانت صعبة، سريع الاستيعاب، عنيد في سبيل مواقفه، ظاهرة، يقدم ولا يتراجع، رجل تخطيط، متواضع، عفوي، مقنع، مقاوم، كاريزماتيّ، نظيف الكف وخطاباته لا تُنسى.

لكن ما لا يعرفه كثيرون ما كان بشير الجميل في عيون المسلمين. فقبل العام 1982، كان بشير قائداً لـ”القوات اللبنانية” التي اعتبرها المسلمون لفترة طويلة ميليشيا طائفية في مواجهة المسلمين المناصرين للقضية الفلسطينية، وليس سراً أن بعض المسلمين صنّفه “عميلاً اسرائيلياً، دموياً وشجّع القتل على الهوية، صاحب مشروع الاستيلاء على السلطة، هدفه إقامة جمهورية مسيحية منعزلة، وما إلى ذلك من عبارات مناهضة”.

لكن عام 1982 رفض المشاركة في الاجتياح الاسرائيلي لبيروت، وهنا بدأت نقطة التحوّل وخصوصاً بعد زيارة بشير إلى السعودية وانفتاحه على العرب. في 23 آب انتخب رئيساً للجمهورية، فتسارعت الأحداث، لكن ذلك، لم يمنع وقوع حوادث مؤسفة تلت مباشرة انتخابه، أوّلها قيام مجموعة من “المرابطون” بإحراق منازل النواب المسلمين والمسيحيين في بيروت الغربية الذين شاركوا في جلسة الانتخاب، ولم يستطع هؤلاء العودة إلى بيروت الغربية الا بعد مدة طويلة.

تزعّم الحركة الاعتراضية آنذاك، رئيس “حركة الناصريين المستقلين” (المرابطون) ابراهيم قليلات، معتبراً أن “بشير الجميل عميل اسرائيلي لا يستحق أن نذكره أو أن نتعامل معه. نحن نقاتل أسياده ولا نقبل بأيّ شرعية أو حكم تفرضه الدبابات الاسرائيلية، وسنقاومه حتى النهاية”.

رفض المسلمون السنّة انتخاب بشير، وانطلق هؤلاء من أسباب عدة أبرزها أن القيادة الاسلامية التقليدية المتمثلة بالرئيس الراحل صائب سلام و”اللقاء الاسلامي” اعتبرت “أن بشير المتورّط مع الاسرائيليين سياسياً وعسكرياً يتحمّل مسؤولية تنفيذ عدد من المجازر في حق المسلمين اللبنانيين، وهو ليس مؤهلاً لقيادة لبنان الذي يعتبر الرئيس صائب سلام أنه لا يقوم الاّ بجناحيه المسلم والمسيحي، على قاعدة الاعتدال والتوازن، وأن انتخاب بشير جاء ليضرب هذه المعادلة في الصميم”.

لكن الأمور تغيّرت جذرياً يوم السبت 11 أيلول 1982 تبعاً لشخصية بشير الثائرة، اذ التقى بالرئيس صائب سلام في قصر بعبدا.

في بداية اللقاء، طلب سلام من بشير أن يترأس طاولة الاجتماع فرفض الرئيس الشاب. وأصرّ قائلاً: “أنت الآن رئيس الجمهورية”. أجابه بشير: “أنا بشير”، فتأثر سلام بهذه المبادرة، وقال: “واحد يدعى بيار وآخر كميل وثالث ريمون. أنت وحدك تحمل اسماً عربياً!”. ثم بدأ النقاش وطال وتناول كل الموضوعات، وقد أصرّ الزعيم السني على أن يطرح كل المسائل. تكلّم طوال ساعتين وكان بشير يصغي. وبعد الغداء، جلسا إلى مائدة الرئيس الياس سركيس واستؤنفت المناقشة، فعرض بشير وجهة نظره في النقاط الرئيسة التي تحدّث عنها محاوره.

عرض سلام نفسه للقيام بوساطة بين الرئيس المنتخب ووليد جنبلاط بغية “احتواء” هذا الأخير. فأجابه بشير: “سأدعم الارسلانيين، ولن أتعامل مع وليد جنبلاط بوصفه رئيس الحركة الوطنية، ولن أتعاون مع هذا النوع من الأحزاب. فليترأس وليد المعارضة، أما أنا فسأحكم بواسطة الأكثرية البرلمانية، وسأحترم كل معارضة في اطار القانون اللبناني”.

وفي ما يخصّ رفض المسلمين عقد معاهدة صلح مع اسرائيل، كان بشير واضحاً وقاطعاً، عندما قال: “أنا أتعهد بانسحاب السوريين والفلسطينيين وسأطلب إلى رئيس الحكومة أن يتعهد بسحب الاسرائيليين. مناحيم بيغن وارييل شارون يطالبان في الوقت الحاضر بمعاهدة صلح ليسحبا قواتهما من لبنان. وعلى اللبنانيين، وخصوصاً السنّة، أن يقرروا الثمن الذي يجب دفعه لتحقيق هذا الانسحاب. لست رجل اسرائيل، ولا رجل أيّ دولة أخرى، لست سوى رجل لبنان. انني أريده حراً، سيّداً ومستقلاً، ضمن حدود الـ 10452 كيلومتراً مربعاً”.

كان بشير صريحاً مع صائب سلام في موضوع تأليف الحكومة الأولى، اذ اعتقد الجميع أنه سيشكل حكومة من وزراء غير معروفين لدى الطبقة السياسية، لكنه أكد له أن أول رئيس وزراء في عهده سيكون سليمان العلي الذي قطع له بشير وعداً بذلك.

ما إن اجتاز سلام عتبة الباب مودّعاً حتى نزع بشير ربطة العنق وهو يقول: “تصوّروا أنني كنت أعقد الكرافات وصائب سلام في زيّ رياضي”. وقد لاحظ الزعيم السني هذه المفارقة، ولم يفته التعليق عليها قائلاً لبشير: “انك تفقدنا صوابنا وتدوّخنا فأنت تارة بالكرافات وطوراً بلا كرافات”. كان هذا اللقاء حدثاً في حدّ ذاته، فقطع سلام وعداً لبشير بأنه لن يقاطع جلسة أداء القسم الدستوري.

بعد هذا الاجتماع عاد صائب سلام بجوّ مختلف، وأعلن أن “الرئيس المنتخب بشير الجميل يختلف عن رئيس الميليشيات العميلة لاسرائيل”. هكذا بدأت الأوضاع في الشارع السني تتغيّر ايجابياً.

إلى جانب سليمان العلي، لم يتوقف بشير طويلاً عند تسمية الوزراء الذين سيشاركون في الحكومة، الاّ أنه اكتفى بذكر بعض الأسماء أمام المقرّبين وخصوصاً على صعيد فريق العمل الذي سيتعاون معه من دون اتخاذ أيّ قرار نهائي في شأنها. فكان ينوي مثلاً تعيّين جورج فريحة رئيساً لفريق عمله، زاهي البستاني مديراً عاماً لرئاسة الجمهورية ومنسّقاً لمختلف النشاطات، جوني عبده مديراً عاماً للأمن العام مع صلاحيات واسعة بصفة مستشار في شؤون الأمن القومي، أنطوان بريدي محافظاً لمدينة بيروت أو جبل لبنان، نازار نجاريان مسؤولاً عن خدمة العلم، فادي افرام مستشاراً للشؤون العسكرية بهدف حلّ “القوات اللبنانية” وانضمام عناصرها تدريجاً إلى الجيش اللبناني والأجهزة العسكرية والأمنية كل وفق اختصاصه. ولم يكن بشير في وارد “حشر” مسؤولي “القوات” في الدولة. كان رهانه كبيراً على مؤسسات الدولة وخصوصاً الجيش اللبناني، وهذا لا يعني استبعاد العناصر القواتية الكفيّة عن مراكز الدولة إذ كان مصمماً على جعل الكفاءة ونظافة الكف والحسّ الوطني، المقياس الأول في اختيار كبار الموظفين.

“أبدع” الرئيس الجديد على مدى 22 يوماً، فكان ما يسمّى “جمهورية الـ 22 يوماً، جمهورية لبنانية بحتة، فجمع حوله الشعب. جذب الجماهير الاسلامية. انقلب من قائد رهيب يخشى جانبه إلى رئيس موثوق به ومحبوب من الجميع. جرف كل أخصامه السنة والشيعة بتياره “الوطني” الذي لا يقاوم، وحصّن موقعه داخل المناطق المسيحية وبانت صورته الناصعة البياض والشفافّة حتى بات محطّ اعجاب معظم اللبنانيين.

ان ما حصل خلال 22 يوماً هو انعكاس لوعي جماعي فاق كل التوقعات، وقد عرف كيف يتحكم بانتصاره، فاعتبره انتصاراً لكل اللبنانيين من دون استثناء، بحيث قال: “ان انتصاري ليس انتصاراً شخصياً ولا انتصار حزب، انه انتصار كل لبنان”. استنفر الشعب اللبناني بأكمله، فكانت الشوارع المزدحمة نهاراً تفرغ من الناس في الثامنة والنصف مساء، موعد نشرة الأخبار. يتجمع الناس أمام الشاشة الصغيرة لعرض “يوم بشير”. كل ما طرحه خلال 22 يوماً هو تحرير البلد من جميع الجيوش الغريبة، وبناء دولة قوية وأمّة موحّدة، وجيش قادر على صون الاستقلال، وتأسيس ادارة سليمة وفاعلة ومكرّسة لخدمة المصلحة العامة، وترقية المجتمع إلى العدالة والتوازن. وكان لهذا الكلام بعدان: بشّر بإنتهاء الإذلال المتوارث للشعب منذ عشرات الأعوام على يد حكم سياسي عاجز عن تغليب صفة المواطنية على الانتماءات الطائفية والمناطقية.

أما البعد الثاني فبشّر بإعادة تقويم عاجلة للبلد، دولة وأمة ومجتمعاً، كذلك بتثبيت هوية تحدد في هذه المنطقة من العالم، غنى ثقافياً خاصاً ذا أهمية عامة وشاملة، وهكذا فإن اللبنانيين المسمّرين أمام الشاشة الصغيرة ساهموا في حلم بشير، عبر اصغائهم له فيذكّرهم بأنه اعتاد تحقيق أحلامه. إن إدراك الشعب لأهمية الـ 22 يوماً، على أنها خيوط ملحمة تمهّد لتحرير لبنان وقيامته، أثبتتها الوقائع عبر تجمّع اللبنانيين بكل أطيافهم وفئاتهم حوله، والوفود التي أمّت دارته مهنئة بانتخابه رئيساً.

ظاهرة أخرى لا تقل روعة، هي التغيير الذي تجسّد بتصرفات الناس كردّ فعل على خطابات بشير، فهو حدّد على نحو كاف مواصفات العمل في المؤسسات الرسمية خلال عهده، فشعر كل موظف أنه ملزم بالتقيّد بها. فالذين أهملوا وظائفهم وكانوا يتقاضون أجوراً وهم قابعون في منازلهم، سارعوا إلى الالتحاق بها. التلزيمات الخاصة بورش الطرق وأشغال الحفر ومدّ القساطل وغيرها، المهملة منذ أعوام انتعشت فجأة، والملفات العالقة منذ مدة طويلة أنجزت وأقفلت خلال 48 ساعة! وكل من كانت تسوّل له نفسه تقاضي رشوة على معاملة رسمية، أقلع عن عادته فوراً وأصبح يرفض الاكرامية قائلاً: “شكراً لن يكون ذلك في عهد بشير”، إذ كان هؤلاء يتذكرون جيداً جملته الشهيرة التي قالها بعد انتخابه في احدى المناسبات: “كل واحد بيجرّب يعمل واسطة أو ياخد رشوة رح يختفي عن وجّ الأرض!”. انتظمت حركة السير وأصبح الناس يشاهدون شرطة السير بعد غياب طويل. وأظهر الجيش اللبناني حزماً في مناسبات عدة، وامتنع مقاتلو “القوات” عن التجول بسلاحهم وبثيابهم العسكرية، واختفت كل معالم الحرب من الشوارع.

ليس سهلاً وضع قائمة للحالات التغييرية التي طرأت على تصرفات الشعب اللبناني بمسلميه ومسيحييه خلال 22 يوماً. لقد توافرت كل شروط النزاهة والاستقامة في شخصية الرئيس الشاب، فهو لم يكن من قماشة الذين يستغلون المناصب لجمع الثروات، فعندما استشهد لم يملك سوى منزله في الأشرفية ومنزل آخر في بكفيا، اضافة إلى سيارة متواضعة من نوع “هوندا”. وقد حرص ذووه على تسجيل بعض العقارات بإسم ولديه.

أكثر من ذلك، قيل انه كان مصمّماً على جعل قصر بعبدا مقراً رسمياً له، أيّ مركز عمل واستقبال، لأنه كان عازماً على الاقامة في الأشرفية. تلك هي جمهورية الـ 22 يوماً التي رسم بشير مسارها ولم يكملها لأنه كان مستعجلاً دائماً غير آبه بالأخطار والأصابع الخفيّة التي كانت تحيك مؤامرة اغتياله!

كلمات البحث
شارك المقال