الحريري راجع!

عاصم عبد الرحمن

منذ تعليق رئيس تيار “المستقبل” سعد الحريري عمله السياسي خرجت إلى العلن محاولات وراثية للحالة السياسية والحيثية الشعبية التي يملكها بهدف الوصول على متنها إلى السلطة، هو حق طبيعي ومشروع طالما أنه تحت سقف المنافسة الديموقراطية بعيداً من ممارسة حرب إلغائية لكيان سياسي لم يعلن انسحابه من الحياة السياسية، إنما تعليق العمل السياسي ريثما تتضح الصورة العربية والاقليمية التي تتجه إليها المنطقة ليُبنى على الشيء التسووي مقتضى الملف اللبناني.

وفي خضم السعي إلى حل الأزمة الرئاسية على أكثر من صعيد داخلي وخارجي تنطلق رحلة البحث عن طريق السرايا الحكومية التي يطمح إلى سلوكها كل مَنْ ينتمي إلى الطائفة السنية، ونظراً الى غياب التمثيل النيابي السني الواسع والذي يحمل بطبيعة الحال زعيم الأكثرية النيابية السنية إلى رئاسة الحكومة عملاً بالأطر الديموقراطية أو مَنْ يسمّيه هذا الزعيم أسوةً بالحريري وفؤاد السنيورة عامَيْ 2005 و2009 وصولاً حتى التسوية الرئاسية عام 2016، فإنَّ الطموحات الزعاماتية تعددت بأساليب سياسية مختلفة وأعراف تسويقية جديدة تحت شعار “الغاية تبرر الوسيلة”.

لقد درجت الأعراف السياسية في لبنان على أنَّ مَنْ يمتلك حيثية شعبية ونيابية وتمثيلاً سنياً واسعاً يصبح مرشحاً طبيعياً لرئاسة الحكومة عملاً بالديموقراطية وكذلك وفقاً للدستور الذي ينص في الفقرة 2 من المادة 53 منه على: “إن رئيس الجمهورية يسمّي رئيس الحكومة المكلف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نيابية ملزمة يطلعه رسمياً على نتائجها”.

بعد الانتخابات النيابية التي جرت في ربيع العام 2022 والتي لم يشارك فيها تيار “المستقبل” وسعد الحريري ما أفسح في المجال أمام شخصيات سنية عديدة للتمثيل في المجلس النيابي معظمها للمرة الأولى في تاريخها، كُلف لاحقاً الرئيس نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة التي لم تبصر النور في أواخر عهد الرئيس السابق ميشال عون نتيجة الشروط المضادة والكيدية السياسية بين معظم الفرقاء السياسيين ليبقى على رأس حكومة تصريف الأعمال.

اليوم وفي إطار البحث عن تسوية رئاسية بسلة سياسية سلطوية شبه كاملة تشمل رئاسة الحكومة وبرنامج عملها والتعيينات المالية والعسكرية في العهد الرئاسي الجديد، ثلاثة أسماء سنية ومن خارج سياق العرف التمثيلي والممارسة الديموقراطية المعهودة لناحية طرح القيادات السنية لرئاسة الحكومة واختيارها، تطرح نفسها كمشروع حكومي إنقاذي ومن بوابات ثلاث مختلفة: الأولى سياسية تتمثل بطرح مشروع مواجهة مع “حزب الله”، الثانية اقتصادية تدَّعي تسويقها من العرب والخليجيين والثالثة أمنية تسطر بطولات في عالم المافيا وتهريب الكبتاغون.

بكل وضوح وبعد فوزه في برلمان 2022 أعلن النائب أشرف ريفي نفسه مرشحاً طبيعياً لرئاسة الحكومة على أثر نيله 11 ألف صوت في الانتخابات النيابية، وراح يوزع المناصب والوزارات شمالاً ويميناً ضارباً بالدستور والأعراف الديموقراطية عرض الحائط مستنداً إلى أصوات ناخبيه لا إلى عدد النواب الذي من المفترض أن يناله وفق استشارات نيابية ملزمة، من دون اهتمامه بعدم امتلاكه الحيثية السنية والشعبية والوطنية العابرة للمناطق والطوائف على السواء، طارحاً مشروع مواجهة مع قوى الممانعة المتمثلة بـ”حزب الله” في لبنان، آخذاً في ذلك الطائفة السنية إلى مكان لم تجد نفسها فيه يوماً لأسباب سياسية ودينية وعروبية ذات عمق إقليمي بنكهة دولية.

وزير الاقتصاد أمين سلام المسمّى في حكومة نجيب ميقاتي من الرئيس ميشال عون وفق تبادل طائفي وزاري بين رئيسَيْ الجمهورية والحكومة، بدأ التسويق لنفسه لحظة توزيره كالوزير الأكثر جاذبية في الحكومة عبر نشر صور معدلة له، ثم انتقل إلى مواجهة رئيس الحكومة على طاولة مجلس الوزراء لخلق حيثية سياسية ما لنفسه ظناً منه بتوسعها شعبياً إلى أن استسهل مؤخراً إمكان الأمير الكويتي خرق الدستور وإقرار مساعدة خارج الأعراف والأطر القانونية “بشحطة قلم”. ومنذ أيام أعلن عن التداول باسمه لرئاسة الحكومة في الأروقة الخليجية والعربية معبّراً عن استعداده لتحمل المسؤولية.

القاضي بسام مولوي وزير الداخلية والبلديات الذي يحاول أن يوحي بأنه قادر على أن يكون مرشح دول عربية، فيما الحقيقة تعاكس ذلك، اضافة الى حضوره الدائم عند كل استحقاق أمني لاظهار صورته البطولية المنقذة لشعبه خصوصاً عند وقوع عمليات خطف لرعايا عرب، ويقوم ببناء ملف سياسي كبير وكتابة سيرة ذاتية دسمة تؤهله لتولي رئاسة الحكومة كشخصية توافقية من الخليج إلى مصر مروراً بالمناطق اللبنانية المتضررة من جراء تفلت الأمن، هي المناطق نفسها التي ثارت على قراره إعطاء إذن الملاحقة القضائية بحق المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان لما يمثله من ثقل أمني وشعبي وسياسي، وعلى الأثر فُهمت رسالته شعبياً والتي أراد من خلالها إزاحة شخصية سنية ذات بعد وطني وخليجي وعربي ربما تُطرح في لحظة تسووية ما لرئاسة الحكومة، سرعان ما تداركت دار الفتوى الآثار السياسية والأمنية والشعبية التي ستنتج عن ملاحقته خصوصاً لدى مؤيدي تيار “المستقبل” وسعد الحريري والطائفة السنية وجماهيرهم.

إن رئاسة الحكومة هي تكليف بمهمة وطنية كبرى ذات أبعاد بنيوية على صعيد الدولة والوطن وليست تشريفاً لاكتساب السلطة والمناصب وممارسة التعالي على الشعب الذي يمتلك وحيداً مفتاح الشرعية التي يمنحها للزعامات السياسية والمناطقية والطائفية. أما أن تقوم شخصيات سنية من خارج السياق الشعبي بطرح نفسها كمشاريع لرئاسة الحكومة وفق مساومة غير سوية فتصبح عندها السرايا الحكومية مكتباً للخدمات الاجتماعية ويعود معها رئيس الحكومة كاتباً لدى الفريق الذي أوصله إلى السلطة. وإذا كانت تجربة رفيق الحريري تختلج في صدور الطامحين آملين أن تحملهم تسوية شبيهة بتلك التي حملت الحريري إلى السلطة في العام 1992، فقد تبدلت الأحوال السياسية معه وأرسى بقوته الشخصية وحنكته السياسية وغيرته الوطنية وعمقه العروبي وتمدده الدولي أعرافاً سياسية وشعبية وديموقراطية أملت على أي طامح لرئاسة الحكومة أن ينبثق عن حيثية شعبية ومناطقية بالاضافة إلى سياسية ونيابية يتمتع بها لمواجهة العواصف العاتية التي تضرب موقع رئاسة الحكومة عند كل استحقاق سياسي ودستوري ووطني.

شارك المقال