نيرون يحرق لبنان

عالية منصور

“الله يعين البلد”… هكذا ختم سعد الحريري اعتذاره، وعلى الرغم من الفارق بين الزمنين والرجلين، إلا أن مقولة سعد الحريري أعادت إلى الأذهان مقولة والده الشهيد رفيق الحريري عندما اعتذر عن تشكيل أول حكومة بعد التمديد لإميل لحود في العام 2004 “إني أستودع الله سبحانه وتعالى هذا البلد الحبيب لبنان وشعبه الطيب”.

يأتي اعتذار سعد الحريري في زمن مختلف لزمن اعتذار رفيق الحريري، ففي العام 2004 كان لبنان محط اهتمام العالم، وكانت الضغوط على نظام بشار الأسد وممثله في لبنان إميل لحود، تتصاعد في ظل موجة دعم عربي ودولي لرفيق الحريري ومشروعه. كان الخلاف بين مشروعين، مشروع لبنان الدولة المستقلة صاحبة السيادة وما ترافق مع وجود رفيق الحريري في السلطة من نمو اقتصادي وبوادر ازدهار على جميع الأصعدة، ومشروع لبنان التابع لضابط مخابرات سوري يعيث فساداً في الأرض، ويحوّل أي طموح للنهوض بالبلد من خلال الابتزاز والترويع إلى مكسب مادي له ولنظامه ولحاشيته.

بينما في العام 2021، لم يعد لبنان على قائمة اهتمام الدول الشقيقة والصديقة، بل باتت النظرة إلى لبنان وكأنه مشكلة يجب تقليل الآثار الجانبية لها وارتداداتها على المحيط لا حلها، ولم يعد في لبنان مشروعان مهما حاول بعض الحالمين تصوير الأمر كأنه كذلك، بل ثمة مشروع واضح المعالم وهو مشروع إيران المتمثل بـ”حزب الله”، في وقت يعجز خصوم الحزب عن الاجتماع والاتفاق ولو على أمر واحد، فلكل منهم مشروعه الخاص.

في العام 2021 كذلك يبدو أن العالم صارأكثر قبولاً بلغة القوة والبلطجة التي تمارسها اليوم إيران ونظام الأسد ومن معهم من أتباع في لبنان، فبدل أن يكون قتلة رفيق الحريري ورفاقه في السجون، ها هو العالم اليوم يفاوضهم، ويرضخ لإرهابهم، لا وأكثر من ذلك، يلوم ضحاياهم إن رفضوا الرضوخ. وها هم ضحايا انفجار المرفأ مثال لمن يرغب أن يرى.

إن جوهر المشكلة في لبنان يتمثل بضعف الدولة وقوة وسيطرة ميليشيا “حزب الله” على جميع مفاصل الحكم.  وإذا ما نظرنا إلى ما يجري إقليمياً ودولياً، وخصوصاً ما يتعلق بإيران والمفاوضات النووية والتمدد الفارسي في المنطقة، فإن أقرب المشاريع المطروحة اليوم واقعية هي مشروع تحييد البلد قدر الإمكان عن الصراعات والحؤول دون انهياره بشكل كامل ريثما تتضح الصورة الإقليمية والدولية.

ومع ذلك، لا يوجد تأييد حقيقي حتى لهذا المشروع، ليس بسبب عدم القناعة بجدواه، بل لأن لبنان 2021 باتت تتحكم بمصيره ومستقبله طموحات بعض الأشخاص الذاتية.

إقرأ أيضاً: “مألوف” بعبدا

ولهذا يمكن النظر إلى اعتذار سعد الحريري على أنه انتصار جديد يضاف إلى سلسلة انتصارات التيار الوطني الحر وزعيمه التاريخي ميشال عون ورئيسه جبران باسيل، وانتصار لأصحاب الخط الأحمر الذين يفضلون سقوط البلد على إسقاط رئيس الجمهورية، وانتصار لطموح جبران باسيل الشخصي، وانتصار لـ”حزب الله” الذي وجد بأصحاب هذا الخطاب الطائفي من يقوم بالحملة على الحريري وما يمثل لصالح عون دون أن يضطر ويظهر هو في الواجهة، وانتصار مؤقت لأصحاب الأجندات الضيقة الذين يختصرون مشروعهم السياسي فقط بالعداء لسعد الحريري وما يمثل دون أن يطرحوا أب مشروع حقيقي بديل، إنه انتصار لكل هؤلاء وأكثر، ولكن سيبقى الخاسر الأكبر هو لبنان، ليس لأن الحريري اعتذر عن تشكيل الحكومة، بل لأن من يتحكم بمصيره ومصير أبنائه أشخاص غاية نضالهم في الحياة كرسي أو لقاء.

كان يقال سابقاً إن نيرون “أحرق روما” ليشعل سيجارة وجلس في قصره يستمتع بمنظر روما تحترق وهو يعزف الموسيقى، وإن كان بعض المؤرخين قد كشفوا أن القصة من نسج الخيال وأن نيرون لم يكن في روما أساساً عند اندلاع الحريق، إلا أن المؤكد أننا اليوم نشاهد نيروناً آخر يحرق لبنان. حمى الله لبنان ممن يشعل النيران في كل مرة يصل فيها إلى الحكم كي يترك البلد رماداً.

شارك المقال