إستراتيجية أنفاق غزة… (١) هل تكون مفاجأة دحر الغزو البري؟

زياد سامي عيتاني

أنفاق قطاع غزة التي بدأ حفرها في تسعينيات القرن الماضي على الرغم من الحصار والمراقبة الشديدة، شكّلت نموذجاً فريداً ومتقدماً على “صراع الأدمغة” بين المقاومة والاحتلال الاسرائيلي. وقد دفعت أعمال التطوير المفاجئة في تقنيات المقاومة التي تجلت في حرب الأنفاق، المراسل العسكري روني دانيئيل في التلفزيون الاسرائيلي الى القول: “يبدو أننا خسرنا صراع الأدمغة في مواجهة حماس”. واتهم محللون عسكريون الجيش الاسرائيلي بالبطء والتأخر في البحث عن الحلول التكنولوجية والميدانية الملائمة لمشكلة الأنفاق وتطبيقها، مع من أن قادته أخذوا يتحدثون عنها فترة من الزمن، باعتبارها سلاحاً “يخرق التوازن”.

تعتبر حرب الأنفاق إحدى أهم وأخطر الأساليب العسكرية التي ستسخدمها المقاومة في مواجهة غزو الاحتلال الاسرائيلي لقطاع غزة. فعلاوة على كونها أسلوباً جديداً شق طريقه إلى قلب المعادلة الكفاحية، وحفر لنفسه موقعاً متميزاً في سلك العمل العسكري المقاوم، فإن البعد النوعي والاستراتيجي الذي يمثله وما يحققه من آثار بشرية ومعنوية، يشكل تهديداً بالغاً وتحدياً للآلة العسكرية الاسرائيلية المدججة بكل آليات الحرب الفتاكة، والنظريات الأمنية التي يضرب بها المثل في اختزان وسائل الحماية والوقاية واجراءاتها كافة واستباق ضربات الخصم، ما يدلل على حجم المأزق الذي عاشته المؤسسة العسكرية الاسرائيلية على وقع هذا التطور الفلسطيني المقاوم.

مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، سعت الفصائل الفلسطينية إلى استغلال هذه الأنفاق لتهريب السلاح إلى القطاع، وتطوير ترسانتها المحلية عبر جلب بنادق الكلاشنكوف وقاذفات الـ”آر بي جي” والرشاشات المتوسطة، من خلال طرق التهريب المتشعبة. ومع دخول انتفاضة الأقصى عامها الثاني، وبتاريخ 26 أيلول عام 2001، نفذت “كتائب القسام” عملية تفجير موقع “ترميد” العسكري الاسرائيلي في رفح جنوبي قطاع غزة، عبر نفق طوله 150 متراً، استخدم لزرع عبوات ناسفة أسفل الموقع، ما أوقع 5 قتلى من جنود الاحتلال، وعدداً من الاصابات، ليكون هذا التاريخ، تدشيناً لما سيعرف لاحقاً بـ”سلاح الأنفاق”.

هذه الأنفاق اعتمدت في تنفيذ عدد من العمليات النوعية التي استهدفت مواقع الاحتلال العسكرية داخل حدود قطاع غزة، وهي عمليات تفجير موقع “حردون” عام 2003، وموقع “محفوظة العسكري”، و”السهم الثاقب”، وموقع “معبر رفح” عام 2004، والتي أوقعت بمجموعها 23 قتيلاً في صفوف جيش الاحتلال، وكانت من الأسباب التي عجّلت في قرار الاحتلال تنفيذ خطة الانسحاب من قطاع غزة عام 2005. وشكل تحرير غزة وانسحاب الاحتلال الكامل منها بداية عهد “الأنفاق الهجومية” التي شقت أرض القطاع نحو عمق الأرض المحتلة عام 1948.

ومع فرض الحصار الاسرائيلي المطبق على القطاع حزيران 2007، عادت الأنفاق إلى سيرتها الأولى، كوسيلة لتهريب المؤن والوقود والمواد الغذائية للقطاع المحاصر عبر الحدود مع مصر. وتحولت مدينة رفح إلى عاصمة لهذه الأنفاق الحدودية، التي وصل عددها الى المئات مع العام 2009، والتي ادعى جيش الاحتلال أنها تستخدم لتهريب الوسائل القتالية إلى القطاع المحاصر، وعمد إلى استهدافها بالغارات الجوية المكثفة، وتدميرها بصورة كاملة خلال عملية “الرصاص المصبوب” 2008 – 2009. لكن هذه الأنفاق عادت الى العمل مجدداً، وتصاعد عددها، وتوسعت مساحاتها. وتزامناً مع سنوات “الأنفاق التجارية”، كانت المقاومة تخوض معركة صامتة تحت الأرض في قطاع غزة، كان عنوانها تدشين “السلاح الاستراتيجي” عبر تشكيل وحدات متخصصة في حفر الأنفاق، وتدشين عشرات الكيلومترات من هذه الأنفاق التي انقسمت إلى 3 أنواع وهي:

– الأنفاق الهجومية: وهي مخصصة لاختراق الحدود مع الأرض المحتلة، وشن هجمات خلف خطوط قوات الاحتلال الاسرائيلي، إضافة الى الأنفاق المخصصة كمرابض لراجمات الصواريخ ومدافع الهاون، التي توفر الحماية لوحدات المدفعية من غارات الطائرات، وتسمح لها بإطلاق الرشقات الصاروخية من تحت الأرض.

– الأنفاق الدفاعية: وتستخدم داخل الأراضي الفلسطينية لنصب الكمائن وتنقل المقاتلين بعيداً عن أعين الطائرات الاسرائيلية وغاراتها.

– الأنفاق اللوجيستية: وتستخدم كغرف قيادة وسيطرة لادارة المعارك وتوجيه المقاتلين، وإقامة القادة الميدانيين، وتخزين الذخائر والعتاد العسكري وتجمع زمر المقاتلين، كما تضم غرف الاتصالات السلكية الداخلية للمقاومة ومقاسمها. فعلى الرغم من الحصار الاسرائيلي المطبق على قطاع غزة، ومنع دخول مواد الانشاءات والخرسانة والحديد، والرقابة المتواصلة على مدار الساعة التي يفرضها الاحتلال عبر طائراته المسيرة، فإن عمليات حفر الأنفاق وتوسيعها وتطويرها تواصلت، وشكلت عمليات إخراج نواتج الحفر وتصريفها، لغزاً لم يستطع الاحتلال حلّه حتى الآن، مع وصولها إلى آلاف الأمتار المكعبة من الرمل في كل نفق يتم حفره وتجهيزه.

في العام 2016 أعلنت إسرائيل البدء بتشييد جدار فوق الأرض وتحتها وبطول 65 كيلومتراً، للقضاء نهائياً على فكرة الأنفاق الهجوميّة، واستمر العمل فيه 3 سنوات ونصف السنة، بتكلفة وصلت إلى 1.1 مليار دولار. والجدار عبارة عن سياج فولاذي بارتفاع 6 أمتار وجدار من الخرسانة المسلحة مسلح تحت الأرض، مزوّد بأجهزة استشعار للكشف عن الأنفاق، إضافة إلى شبكة من الرادارات وأجهزة المراقبة والاستشعار عن بعد، وأبراج حراسة مزودة برشاشات ثقيلة يتم التحكم بها عن بعد.

ومع اكتمال تشييد الجدار الفاصل والسياج الذكي عام 2019، قال وزير الدفاع الاسرائيلي في حينه بيني غانتس إن هذا الحاجز “مشروع تكنولوجي من الدرجة الأولى، يحرم حماس من القدرات التي حاولت تطويرها، ويضع جداراً حديدياً بينها وبين سكان الجنوب”. لكن في الساعات الأولى من صباح السبت 7 تشرين الأول الجاري، قضى مقاتلو المقاومة عند اجتيازهم السياج على أسطورة “الجدار الحديدي” الذي شيّده الاحتلال على طول الحدود مع قطاع غزّة، والذي صوّره لسنوات على أنه “الحل النهائي” لمعضلة الأنفاق وتهديدها لمستوطنات “غلاف غزّة”.

الأنفاق التي حررت غزة من الاحتلال، هل تكون هذه المرة السلاح الاستراتيجي لهزيمة الاسرائيليين عندما يقررون غزوها براً؟

شارك المقال