وتبقى الأحلام حية…

تركي الحمد
تركي الحمد

حين ألقى مارتن لوثر كينغ خطبته الشهيرة “لدي حلم I have a dream”، في واشنطن العاصمة، عام 1963، كانت أوضاع السود في الولايات المتحدة مزرية حقاً. فعلى الرغم من مرور ما يقارب القرن من الزمان على التحرير “الرسمي” للعبيد في أميركا، إلا أن أحوالهم بعد ذلك لم تتغير كثيراً: فما زالوا يقبعون في قاع المجتمع، وما زالوا يقومون بتلك الأعمال التي لا تجد من يقوم بها، وما زال الفصل العنصري قائماً بقوة القانون في ولايات الجنوب المتعصبة، وما زال لون البشرة السوداء يقف عائقاً بينهم وبين الاعتراف ببشريتهم. بإيجاز العبارة، تغير الظاهر ولم يتغير المضمون، منذ تحريرهم في عهد أبراهام لينكولن، وحتى بداية تحريرهم الثاني في عهد جون كينيدي. كانت أوضاع سود أميركا مزرية حقاً حين ألقى مارتن لوثر كينغ خطبته الآنفة الذكر، وكان كل شيئ يدعو إلى الثورة: ثورة المضطهدين ضد مضطهديهم، وثورة المستضعفين ضد مستضعفيهم، وكان كل شيئ محيط يبشر بالعنف والدم، وقد انفجر العنف، وسال الدم فعلاً، وكان لذلك دعاة مؤمنون بأن الظلم لا يمكن أن يُدفع إلا بالدم. ولكن مارتن لوثر كينغ كان يرى أبعد مما كان معاصروه يرون، ومن السود والبيض معاً. كان مارتن لوثر ينطلق من أن الظلم، مهما كان أمده طويلاً، لا بد أن يأتي يوم وينتهي، فهو صورة شاذة لعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان. وكان مارتن لوثر يؤمن بأن البشر أخوة، حتى لو قالت الأحداث الآنية بغير ذلك. وكان مارتن لوثر يؤمن بناءً على ذلك بالأحلام التي سوف تجسد هذه الحقيقة في النهاية، فيقف “أبناء الله” المتساوين، على اختلاف ألوانهم ومذاهبهم وأعراقهم وأماكنهم، متشابكي الأيدي وهم يرددون بصوت واحد: أحرار في النهاية.. أحرار في النهاية.. شكراً يا إلهي فنحن أحرار في النهاية، كما أنهى مارتن لوثر خطبته التاريخية.

كانت الحرية لدى مارتن لوثر، كما كانت لدى أولئك الذين رأوا أبعد مما كان يعتقد الآخرون أنهم يرون، تعني المساواة والتسامح والتواضع، فلا حرية مع تصنيف البشر إلى فئات وطبقات بعضها أفضل من بعض، ولا حرية مع الاعتقاد بحقيقة مطلقة لا حقيقة غيرها، تُفرض على عقول الآخرين، ولا حرية مع الإحساس بعظمة واهية نتيجة ظروف عابرة. عندما كان مارتن لوثر يبشر بالإنسان، وأنه سيأتي اليوم الذي يكون فيه الإنسان إنساناً، كان آخرون، وحتى من بني جنسه، يرون أنه حالم طوباوي، فاليوم الذي يتساوى فيه الزنجي مع الأري هو يوم أبعد من يوم الحساب ذاته، ولكن كينغ كان يرى، ومن تلك القمة “فوق الجبل” حيث ذهب في حلمه، كما قال في خطبة أخرى قُبيل وفاته بيوم واحد، ما لم يكن بمقدور ذوي النظر المحدود أن يروا: رأى مستقبلاً باسماً رغم كل المثبطات، ورغم كل الظلام المحيط، وذلك لأن قدر الإنسان أن يكون حراً، بل قدر الإنسان أن يكون في النهاية إنساناً، وكان كينغ يحلم على هذا الأساس، ويتصرف على هذا الأساس. واليوم، جزء كبير من حلم كينغ “المستحيل” تحقق، فمن كان يتخيل مثلاً، وصول أفريقي أسود إلى البيت الأبيض، بعد أربعة عقود من اغتيال كينغ، في بلد كان يمنع “الكلاب والزنوج” من دخول مطاعمه البيض، والسباحة على شواطئه البيض، فما بالك ببيت واشنطن وآدامز وجيفرسون؟

لم يكن كينغ إلا حالماً من الحالمين في التاريخ، الذين رأوا ما لا يُرى، ولذلك كانوا من الخالدين. لم تكن أحلامهم أحلام يقظة، أو أمنيات لا أساس لها، بقدر ما كانت استشرافاً لقدر الإنسان مهما طال الزمان. قدر الإنسان الذي قالت به الأديان حين كانت أدياناً، وقبل أن تتحول إلى مؤسسات قهر وربح واستعباد وإرهاب، حين قال الرب لملائكته: “إني جاعل في الأرض خليفة “، وحين قال: “ولقد كرمنا بني آدم”، قدر الإنسان الذي بشر به أناس مثلنا، ولكنهم لم يكونوا مثلنا في الوقت ذاته. أناس لم تأسرهم اللحظة بتفصيلاتها، ولكنهم تجاوزوا الزمان، فرأوا ما وراء الزمان، وعرفوا أن الحرية هي قدر الإنسان وإن طال الزمان. فلم يكن يسوع المسيح واهماً ولا حالماً بسذاجة عندما كان يبشر بالقول: “من ضربك على خدك الأيمن، فأدر له الأيسر”، وإنما كان يُبشر بالتسامح في أعلى درجاته، والتسامح قوة ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ولم يكن النبي المصطفى واهماً أو ساذجاً، وهو يبلغ كلام ربه: “ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”، بل كان يبين قوة التسامح، حين يكون التسامح سيداً. ولم يكن غاندي ضعيفاً أو واهماً وهو يبشر بالساتياغراها ومبدأ اللاعنف، بقدر ما كان قوياً كل القوة وهو يستفز الإنسان في داخل الإنسان، فيحوله إلى ولي حميم.

واليوم أنظر حولي إلى هذا الجزء من العالم الذي يسمونه عالم العرب، فلا أرى في أغلب بقاعه إلا سواداً أين منه السواد، وملاك موت قد كل منجله من قطف الرؤوس، وطاعون يفتك بالأرواح قبل الأجساد. لا أرى إلا وحوشاً قد أثار الدم شهيتها، وغابة يتحكم فيها الصراع وتنفلت الغرائز، وغاب الإنسان من كل ذلك، إلا من أصوات تصرخ في البرية، فلا أذناً أسمعت، ولا شعوراً أيقظت. العالم، كل العالم، من حول هذا العالم يتدرج في مدارج الإنسانية، فمنهم من سار باعاً، ومنهم من قطع ذراعاً، وهنا يغيب الباع والذراع معاً، فتنعدم المسافات، وتضيع الحدود بين الزمان وأبعاده. أرى كل ذلك فأصاب باليأس، وأكاد أضيع في دوامة المجهول، لولا أن تدركني في النهاية رحمة ربي، فأتذكر الخالدين، وتعود الآمال والأحلام تدغدغ قلبي قبل أن تغزو رأسي. تطوف خيالات أحمد والمسيح، ديوجين وسقراط، غاندي ورسل الإنسان والسلام في كل زمان ومكان، فأحلم بعيداً، وأعلم أن للأمر نهاية، وأنه في تلك النهاية لا يصح إلا الصحيح، ولا صحيح إلا الإنسان وحرية الإنسان، فما نحن في النهاية إلا من بني الإنسان، حتى وإن هبطنا إلى الدرك الأسفل من البهيمية في لحظة شاردة من لحظات التاريخ. المستقبل للإنسان، وكرامة الإنسان، وقيم الإنسان، وإن كره أعداء الإنسان، فالقدر ذاته هو الإنسان.

شارك المقال