“قواعد الاشتباك” التي أرساها الحريري لا تزال تحمي لبنان

زياد سامي عيتاني

منذ إندلاع المواجهات على الحدود اللبنانية والاسرائيلية في الثامن من تشرين الأول، بات مصطلح “قواعد الاشتباك” يحتل بصورة بارزة وملحوظة البيانات والمواقف السياسية والعسكرية ووسائل الاعلام. المفارقة أن تلك “القواعد” أرساها “تفاهم نيسان” عام 1996، الذي أوقف “عناقيد الغضب”، ومرت ذكراه منذ بضعة أيام، في ذروة المعارك والمواجهات التي تبادلها “حزب الله” والعدو الاسرائيلي، من دون أن يؤتى على ذكره! فكيف وضعت “قواعد الاشتباك” لربط النزاع بين إسرائيل و”حزب الله”؟

في 26 نيسان 1996، وبعد 16 يوماً من العدوان الاسرائيلي على لبنان، الذي أطلق عليه “عناقيد الغضب”، أعلن الرئيس الشهيد رفيق الحريري من بيروت، التوصل إلى اتفاق “تفاهم نيسان”، بحضور وزيري خارجية فرنسا ولبنان، فيما كان يعلن عنه بالتزامن من القدس رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك شيمون بيريز بحضور وزير الخارجية الأميركي. ويعد “تفاهم نيسان”، الذي رسم ما عرف بـ”قواعد الاشتباك” بين “حزب الله” وإسرائيل، الاتفاق الخطي الوحيد المعقود بين لبنان وإسرائيل، بعد “إتفاق الهدنة” الموقع عام 1949.

وربطت فيما بعد، بعض المراجع السياسية التي واكبت تلك المرحلة، أن “قواعد الاشتباك” التي تضمنها “تفاهم نيسان” مهدت لانسحاب قوات العدو الاسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، وتطبيق القرار الدولي الرقم 425. وللتوضيح فإن “قواعد الاشتباك”، ليست مسألة مكتوبة أو مبرمة أو وثيقة موقعة، بل هي قواعد بنيت أساساً على “تفاهم نيسان”، الذي رعته الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وسوريا في حينه، وفق معادلة “في حال قتل مدنيون فسنرد بقتل مدنيين”، والذي نص على احترام الخط الأزرق بصورة صارمة، وعلى وقف الأعمال الحربية عبر الحدود، وكذلك على تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، (لتتوسع تلك القواعد من “حزب الله” بعد حرب عام 2006، على قاعدة أنه أصبح لديه نوع من قوة ردع يتصرف من خلالها، وتشمل “القصف مقابل القصف”).

إلا أن “التفاهم” في المقابل شكل “الغطاء” الشرعي الذي استفاد منه “حزب الله” ضمن كنف الحكومات المتعاقبة التي كانت تشير إلى شرعية سلاح الحزب تحت معادلة “جيش وشعب ومقاومة”. فكان “التفاهم” نقطة تحول أساسية في تحول “حزب الله” تدريجاً من “فصيل” عسكري مهمته “حروب العصابات” لتحرير الجنوب من العدو الاسرائيلي، إلى ما يشبه تنظيم عسكري رسمي، بعد أن سمح له بإنشاء معسكرات تدريب ومراكز عسكرية وحرية تنقل المقاتلين والأسلحة وإمكان إدخالها وإخراجها من لبنان واليه، حتى بات يمتلك ترسانة تفوق بأضعاف مضاعفة قدرات الجيش اللبناني.

إذاً، “تفاهم نيسان” مهد للإنسحاب الاسرائيلي من لبنان بجهود ديبلوماسية مضنية كان يبذلها الرئيس الحريري بالتنسيق مع الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس الفرنسي جاك شيراك، في حين كانت ألمانيا تتولى التواصل مع الجانب الايراني. وبالفعل تحقق الانسحاب عام 2000 في وقت كان الرئيس الحريري خارج الحكم. واعتبر ذلك الحدث التاريخي إنتصاراً عارماً لكل اللبنانيين، الذين بكل فئاتهم يعتبرون أن لهم فيه مشاركة. لكن، “الخطيئة الوطنية” الكبرى التي لا يزال لبنان يدفع أثمانها حتى اليوم، أنه لم يتخذ قرار رسمي من السلطة اللبنانية بإدخال الجيش اللبناني إلى المناطق الجنوبية التي انسحب منها العدو الاسرائيلي، بل أنيط الأمن فيها بـ “حزب الله” بموافقة الرئيس السابق إميل لحود وقرار من حكومة رئيس الوزراء السابق سليم الحص، (ربما قد تكون بفعل ضغوط خارجية قد تعرض لها، لا سيما وأن الرئيس لحود كان قائداً للجيش، وهو من أعاد توحيده بعد الحرب).

يشار في هذا المجال وللتاريخ، أن الرئيس الحريري لم يكن راضياً عن ترك الجنوب المحرر حينها تحت إدارة “حزب الله”، إذ انه كان في المعارضة أثناء الانسحاب الاسرائيلي، ويسعى الى دخول الجيش على الرغم من قناعته بالشراكة مع الحزب وضرورة الاحتفاظ بقوته العسكرية حتى إنجاز التسوية مع إسرائيل (وهذا ما عبّر عنه نائب الحزب حسن فضل الله في كتابه “من رؤية الاسلام لمفهوم الدولة”).

العام 2005، يمكن تسميته بعام التحولات الجذرية في المعادلة السياسية اللبنانية، إذ بعد اغتيال الرئيس الحريري في 14 شباط من هذا العام وانسحاب القوات السورية من لبنان وصدور القرار الدولي 1559 الذي ينص على تسليم “حزب الله” وجميع الفصائل المسلحة السلاح الى الدولة اللبنانية، استشعر الحزب خطر الاصطدام بالدولة، الأمر الذي دفعه الى المشاركة في الحكومات لأول مرة لفرملة الاندفاعة الشعبية والسياسية التي برزت عبر تحالف قوى “14 آذار”، التي فرضت عليه “الحوار” لمناقشة قضية السلاح عبر ما سمّي حينها “استراتيجية دفاعية”، إلا أنه استطاع التنصل من ذلك الحوار بعد الحرب التي شنتها إسرائيل في 12 تموز 2006 ضده، وانتهت بعد 33 يوماً بصدور القرار الدولي 1701، الذي بموجبه تم رفع عديد قوات حفظ السلام الدولية العاملة في جنوب لبنان إلى 15 ألف عنصر، وكذلك دخول الجيش اللبناني إلى الجنوب لينتشر في جميع الأقضية الجنوبية، بعد منع أي تواجد عسكري لـ “حزب الله” في منطقة جنوب نهر الليطاني، أي بعمق حوالي 20 كيلومتراً شمال الحدود الاسرائيلية.

لكن تتابع الأحداث والتطورات بيّنت لاحقاً وجود اتفاق “ضمني” ينظم قواعد اشتباك جديدة بين الحزب وإسرائيل بصورة “منقحة” عن تلك التي تضمنها “تفاهم نيسان”، وهو ما أثبتته الأحداث والاشتباكات “المضبوطة” التي حصلت منذ العام 2006 حتى الآن، ويتمثل في أن أي رد سيقابله رد مماثل من دون أن يتطور إلى حرب أو معركة واسعة النطاق. وهي “قواعد الاشتباك” التي لا تزال تتحكم بالتطورات الميدانية منذ الثامن من تشرين الأول، وتحمي لبنان، على الرغم من تصاعد وتيرة المواجهات بين العدو الاسرائيلي و”حزب الله”، خصوصاً مع دخول فصائل فلسطينية و”سنية” على الخط، ما يتناقض مع القرار 1701.

شارك المقال