رحيل كيسنجر … الحكيم المكروه

لبنان الكبير

توفي هنري كيسنجر عملاق الديبلوماسية الأميركية وزير الخارجية في عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، عن مئة عام أمس الأربعاء.

كيسنجر الذي يلقبه الكثيرون بديبلوماسي القرن العشرين، أطلق عجلة التقارب بين واشنطن وكلّ من موسكو وبكين في سبعينيات القرن الماضي. اعتنق مذهب “السياسة الواقعية” وطَبَع اسمه في السياسة الخارجية الأميركية، وربما الغربية عموماً، منذ أكثر من نصف قرن، راسماً ديبلوماسية أميركية عابرة للحزبين الجمهوري والديموقراطي، وتاركاً أثراً عميقاً لا يزال حيّاً حتى اليوم في السياسات الداخلية للولايات المتحدة.

ولد هاينز ألفريد كيسنجر في فورث بألمانيا في 27 أيار 1923، وانتقل إلى الولايات المتحدة مع عائلته في العام 1938 قبل الحملة النازية لإبادة يهود أوروبا. وغيّر اسمه الى هنري وحصل على الجنسية الأميركية في العام 1943، وأصبح مجنداً خلال الحرب العالمية الثانية ثم حصل على منحة دراسة في جامعة “هارفارد”، وترقى سريعاً في دراسته وحصل على درجة الماجستير في العام 1952 والدكتوراه في العام 1954، وخلال تلك الفترة عمل كمستشار للوكالات الحكومية. وفي العام 1967 عمل كوسيط لوزارة الخارجية في فيتنام. واستخدم علاقاته مع إدارة الرئيس ليندون جونسون لنقل المعلومات حول مفاوضات السلام إلى معسكر الرئيس نيكسون، وحينما فاز الأخير في الانتخابات الرئاسية عام 1968 قام بتعيين كيسنجر مستشاراً للأمن القومي الأميركي.
وفي العام 1973، بالاضافة إلى دوره كمستشار للأمن القومي، تم تعيين كيسنجر وزيراً للخارجية، ما منحه سلطة لا منازع فيها في الشؤون الخارجية، واحتفظ بالمنصبين معاً من 1973 إلى 1975، ويعد الشخص الوحيد الذي شغل المنصبين.
على الرغم من استقالة نيكسون عام 1974 جراء فضيحة “ووتر غايت”، صمد كيسنجر في منصبه وزيراً للخارجية في عهد خلفه جيرالد فورد حتى العام 1977.
يعرف كيسنجر بدوره كوسيط بين اسرائيل والدول العربية، ففي العام 1973 بعد الهجوم المباغت للدول العربية على إسرائيل، نظم جسراً جوياً كبيراً لمد الحليف الاسرائيلي بالأسلحة.

كان له الدور الأساس في إنشاء العلاقة بين الولايات المتحدة والصين في عهد زعيمها ماو تسي تونغ على حساب المنظومة الاشتراكية بزعامة الاتحاد السوفياتي، مؤسساً بذلك لـ”التوازن الثلاثي” بين القوى النووية الثلاث. ثم قيادته الشخصية لـ”الديبلوماسية المكوكية” بين كل من مصر وسوريا من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى للتوصل ليس إلى وقف النار في حرب العام 1973 وحسب، بل أيضاً إلى اتفاقات السلام بين مصر وإسرائيل.
حينما اندلع الصراع العربي – الاسرائيلي قام كيسنجر بمهام مكوكية بلغت 32 رحلة ما بين القدس ودمشق لدفع الجهود نحو صياغة اتفاق طويل الأمد لفك الارتباط بين إسرائيل وسوريا في مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل. واشتهر خلال تلك الفترة بالديبلوماسية الشخصية.

كذلك، قام كيسنجر بالعمل على اتفاق حول الأسلحة الاستراتيجية مع الاتحاد السوفياتي، حيث سافر مع الرئيس فورد إلى فلاديفوستوك، للقاء الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف، واتفقا على إطار عمل أساس لاتفاق الأسلحة الاستراتيجية وهي الاتفاقية التي أدت إلى تخفيف التوترات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي.

ترك كيسنجر منصبه في أروقة السلطة مع فوز الرئيس الأميركي جيمي كارتر بالرئاسة عام 1976، وأنشأ شركة استشارية في نيويورك لتقديم المشورة الى كبرى الشركات في العالم. كما عمل عضواً في مجالس إدارة الشركات، ومحاضراً في العديد من منتديات السياسة الخارجية والأمن، ومعلقاً إعلامياً منتظماً في الشؤون الدولية إضافة إلى قيامه بنشر العديد من الكتب السياسية.

أدت الجهود الاستثنائية لكيسنجر إلى منحه جائزة نوبل للسلام، مناصفة مع لو دوك ثو من فيتنام الشمالية، ورفض الجائزة، بحيث استقال اثنان من أعضاء لجنة نوبل بسبب الاختيار، على الرغم من أن كثيرين لا يزالون ينتقدون سجله باعتباره “مجرم حرب”، بسبب ارتباط اسمه بالسجلات السوداء لسياسات الولايات المتحدة ونشاطاتها العسكرية والاستخبارية في بلدان عديدة، من فيتنام وكمبوديا ولاوس إلى باكستان وتشيلي وكوبا، ومن غزو تيمور الشرقية إلى حرب لبنان وتقسيم قبرص، وغيرها من البلدان التي عانت خلال تلك الحقبة.

شارك المقال