غزة… عالقون يبحثون عن مخارج!

أنطوني جعجع

ثمة معادلة في حرب غزة لا يجرؤ أحد من أطرافها على التسليم بها سواء سراً أو علناً، وكأن هناك اتفاقاً مشتركاً على طمس الاحتباسات تحت الأرض ونشر المكابرات فوقها.

هذه المعادلة تبرز جلياً في اسرائيل حيث يعرف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن لا خيار أمامه سوى الانتصار، رافضاً أن يصل الى لحظة التنحي بعد الحرب مهزوماً أو مذلولاً حتى لو اقتضى الأمر زج جنوده في جحيم يمتد من غزة الى طهران.

فالرجل، الذي فقد شقيقه دانيال نتنياهو خلال عملية عنتبي الشهيرة في أوغندا، لا يريد الاقرار بأن الجيش الاسرائيلي لم يعد الجيش القادر على هزيمة العرب في بضعة أيام، أو بأن المقاتل العربي لم يعد هو هو كما كان الأمر مع الجيوش النظامية منذ العام ١٩٤٨.

كل شيء بالنسبة الى نتنياهو قد تغير، فالقادة الحاليون يختلفون عن أقرانهم، والجيش الحالي يختلف عن المحاربين القدامى، والشعب الاسرائيلي الحالي يختلف عن الأجيال التي كانت تؤمن بأن التفوق “نعمة” يهودية حصرية، وأن أمن بلادهم لا يُخطئ ولا يُقهر.

بعد “السابع من أكتوبر”، وقبلها “حرب تموز”، لم يعد الأمر في تل أبيب كناية عن قيادة شعبية ملهمة، ولا عن جيش محترف ولا عن شعب موحد، وهو ما يزيد عملياً في جنون نتنياهو وأعضاء مجلس الحرب الذين يعرفون أيضاً أن حالهم ليست أفضل حالاً، وأن التعثر في غزة سيجعلهم خارج التاريخ.

ومن تل أبيب الى غزة، لا تبدو حركة “حماس” في وضع أفضل، فهي انتقلت بعد “طوفان الأقصى” من محاولة تحرير الأرض المحتلة الى محاولة الحفاظ على ما تبقى من أرضها الحرة في القطاع الصغير، ومن محاولة بناء نواة لدولة “ثورية” قوية الى كيان أصولي مدمر قد لا يجد من يعيد بناءه، ومن شعب يحلم بالحرية والازدهار الى شعب مشرّد في مكان ومدفون تحت الأنقاض في مكان آخر.

وهنا أيضاً، تجد “حماس” نفسها بين خيارين لا ثالث لهما، اما القتال حتى آخر رجل، واما انسحاب الأعداء حتى آخر رجل، معتبرةً أن أي هزيمة محتملة لن تكون مجرد انتكاسة تشبه هزيمة ياسر عرفات في بيروت وحسب، بل هزيمة مطلقة تمتد أيضاً من غزة الى طهران وربما جولة فلسطينية أخيرة في جولات السلاح.

ومن غزة الى جنوب لبنان، لا يبدو “حزب الله” اليوم كما كانت حاله في حرب العام ٢٠٠٦، فهو يخوض حرباً ليست حرب تحرير سجين لبناني هو سمير القنطار أو سواه، أو تحرير شبر من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، بل حرب يستفيد منها طرف غير لبناني على حساب لبنان وشعبه هو الطرف الفلسطيني الخارج من الحظيرة العربية والغارق حتى رأسه في الحظيرة الايرانية على مستوى السلاح والتدريب، وفي الحظيرة “الاخوانية” على مستوى المال والعقيدة .

وليس سراً أن حسن نصر الله فشل في تبرير الحرب التي يخوضها من جنوب لبنان على المستوى السياسي والشعبي، وكذلك في اظهار فاعليته العسكرية المؤثرة التي طالما اعتد بها، وانتقل من هدف “الاسناد” الذي اعتقد أنه يخفف الضغط الاسرائيلي عن مقاتلي “حماس”، الى المطالبة بوقف اطلاق النار بأي ثمن.

وليس سراً أيضاً أن “حزب الله” يقر في سره بأن من سقط من رجاله انما سقطوا عبثاً، فلا هم نجحوا في تغيير ميزان القوى في غزة لمصلحة “حماس” المتراجعة حتى رفح، ولا في تسجيل خسائر موجعة في صفوف الجيش الاسرائيلي الذي وصل الى بعض رهائنه، وحوّل عشرات القرى الحدودية الى أكوام من الأنقاض، وجعل كل فرد من أفراده هدفاً لصواريخه ومسيراته داخل “قواعد الاشتباك” وخارجها.

وأكثر من ذلك تحوّل “حزب الله” في حسابات الغالبية اللبنانية الى “حارس” ايراني أكثر منه الى “حارس” لبناني، الأمر الذي يفسر ارتباكه الاعلامي من جهة، ولغته التخوينية والتهديدية من جهة أخرى، وتحوّل أيضاً في المجتمعات اللبنانية والاقليمية والدولية وفي شكل فج ومباشر، جيشاً ايرانياً صافياً على الحدود اللبنانية – الاسرائيلية، وشريكاً كاملاً في معركة تمتد من غزة الى طهران .

ويتفق المراقبون على أن “حزب الله” يدرك جيداً أنه لم يعد قادراً على العودة الى الوراء، وبات أمام خيارين لا ثالث لهما، اما الحصول على “نصر” ما في غزة يبرر ما فعله في الجنوب وهو أمر مستبعد على الأرجح، واما الحصول على خلاف ذلك والوقوف أمام اللبنانيين والعالم عارياً من هيبته ومصداقيته ومبررات سلاحه وهذا أمر وارد.

ومن جنوب لبنان الى البحر الأحمر، لا تبدو ايران في وضع أقل احراجاً وارباكاً بعد اقتراب النيران من حدودها، فهي تعرف أنها باتت في مواجهة قوة بحرية وجوية أميركية هائلة ومستعدة للقتال، وتعرف أيضاً أنها لا تستطيع الرهان على مسيرات “الحشد الشعبي” وصواريخ الحوثيين التي جلبت “حلف الأطلسي” الى المنطقة بدلاً من إخراجه، ولا تستطيع أن تحتمل اشتعال الحرب الأهلية اليمنية مجدداً، وامكان أن ينعكس ذلك على أمن السعودية ودول الخليج فضلاً عن المصالحة غير المتماسكة مع الرياض التي تشعر باقتراب النيران الايرانية مجدداً من حدودها في البر والبحر، لا سيما بعد انفتاحها على تطبيع محتمل مع الدولة العبرية.

وليس سراً في الجانب الايراني، أن “الحرس الثوري” الذي يتلقى ضربات موجعة تنال من قياداته الكبيرة والاحترافية، بات أمام خيارين لا ثالث لهما، اما الذهاب برجاله وسلاحه الى حرب شاملة، واما البحث عن تسوية سياسية يخرج منها بأقل قدر من الخسائر وهو ما ألمح اليه مكابراً وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان من خلف متاريس بيروت .

ومن طهران الى واشنطن، لا يبدو الرئيس جو بايدن في وضع مريح كما كانت الحال عندما دعم أوكرانيا ضد روسيا وجمع أوروبا كلها حوله، اذ وجد نفسه فجأة عالقاً بين خيارين: اما التفرج على اسرائيل وهي تخوض أخطر معاركها منذ ٧٥ عاماً، واما التدخل مباشرة لا لنصرتها وحسب بل لحماية جنوده المنتشرين في الأردن وسوريا والعراق ومياه الخليج أولاً والخروج ثانياً بأي مكسب خارجي قد يبقيه في البيت الأبيض ولاية ثانية.

ومن واشنطن الى العالم العربي، لا تبدو الحال أفضل حالاً، فعرب الاعتدال عالقون بين تأييد قضية فلسطينية تقودها ايران من جهة و”الاخوان المسلمين” من جهة ثانية، وبين سلطة فلسطينية لا تبدو في وضع سياسي أو عسكري أو اقتصادي قادر على أن يكون الحل القيادي الأوحد في اليوم الأول لانتهاء الحرب.

ويقول مصدر ديبلوماسي عربي: ان العرب يفصلون بين “فلسطين العربية” و”فلسطين الايرانية”، وأيضاً بين “فلسطين السنية المعتدلة” و”فلسطين السنية المشيعة”، وبين دولة فلسطينية مستقلة ترعاها الجامعة العربية ودولة ترعاها ايران على حدود كل من الأردن ولبنان وسوريا ومصر والبحر الأبيض المتوسط.

من هنا خرجت السعودية الى العلن لتطرح التطبيع مع إسرائيل في مقابل الدولة المستقلة، بدلاً من الطرح الايراني القائم على السلاح في مقابل السلاح.

ومن هنا أيضاً يمكن فهم استنفار الأردن على حدوده مع “سوريا الايرانية”، والاستنفار المصري على حدود رفح للجم أي تدحرج “حماسي” نحو أراضيها، والحملات الخليجية غير المعلنة على خلايا “الاخوان المسلمين”، والمجاهرة الأميركية والأوروبية في محاسبة قوى الممانعة في غير مكان، وفي المحاولات التي تبذل لتعزيز الجيش الوطني اليمني في مواجهة الحوثيين، وتعويم الاعتدال السني اللبناني من خلال الدعوات لعودة سعد الحريري الى المعادلة السياسية اللبنانية.

انها اللحظة التي أدرك فيها العالمان العربي والغربي، أن الشرق الأوسط الجديد الذي يتطلعان اليه لا يمكن أن يكون تعايشاً آمناً ثابتاً بين اللاحرب واللاسلم ٧٥ سنة أخرى، وأن المنطقة لم تعد تتسع لفريق يعمل لحرب لا يستطيع الانتصار فيها وآخر يؤمن بسلام لا يستطيع التنعم به.

شارك المقال