أنا أكره 4 آب…

حسناء بو حرفوش

أنا أم لبنانية أكره 4 آب وكل ما فيه… وكل ما بعده وكل ما يذكرني به…

في 4 آب، كنت قد عدت للتو من المستشفى بعد عملية قيصرية لأنجب ابنتي الثالثة. أكره أن رئتيها امتلأتا عندما أخذت أول أنفاسها بسموم الأمونيوم. كم تمنيت أن أعيدها إلى رحمي، وكم بكيت لأني جئت بها إلى هذا العالم المشؤوم. كرهت نفسي لأني حملت بيدي طفلة حية بينما هناك من يهرول بأشلاء أبنائه وبناته في بيروت. لوددت أن أسميها بيروت، لكنني خفت أن يرافقها ظل أعدائها وكل الغيارى الذين فجروا سرطان الغدر في صمامات قلبها.

في ذلك اليوم الذي نزل فيه شبح الغضب ليدمر أرواحنا، امتزجت آلام رحمي الممزق برحم بيروت المظلومة. لقد فتح رحم بيروت من أهراءات القمح والخير وخرجت اللعنات كما من صندوق باندورا لتجرف نسائم الأرواح الطبية ولنلفظ أنفاس الأمل الأخيرة. منذ 4 آب، توقفت روزنامة الزمن، وتوقف نبض بيروت العذب. نزلت في ذلك اليوم لأرى المرفأ وأنا أضغط على جرحي الذي بدأ يؤلمني بعد تلاشي مفعول التخدير. بيروت تنزف وتئن وليس من يخدرها لا في الداخل ولا من الخارج. وقفت بجانب المرفأ لأؤدي قسطي من الوطنية ولأبكي على من غادرونا… لقد غادرنا كثرٌ منذ أن رحلوا لدرجة بتنا نتساءل ما نحن بفاعلين هنا. بكينا سوياً وصرخ لبنان في أرواحنا وصرخ معنا.

جف حليب الأمومة من سمّ القهر تماماً مثلما جف حليب المرضعة التي دفنت طفلها قبل أن يلفظ كلمته الأولى. لا مرات أولى منذ 4 آب. لا صرخة طفل عند الولادة، فقد طغى عليها رعب الانفجار… لا خطوة أولى، ففي ذلك اليوم من ذُبحت أطرافهم، ولا قبلة أولى للشاب الذي غفا بعد قبلة الموت. ولا زغرودة أولى بعد أن اختلطت الزغاريد برثاء مستقبلنا في توابيت بناتنا وشبابنا… ولا رقصة أولى بعد أن رقصنا جميعاً مذبوحين من الألم…

إقرأ أيضاً: صخب الحصانة… “الأشرفية أولاً” بين التيار والقوات

في 4 آب، تسللت إلينا البغضاء. كرهنا النوافذ التي تساقط زجاجها على أحبابنا من كبار السن، فشوهت وجوههم ومثّلت بأجسادهم، وكرهنا الطرقات التي فاضت فيها روائح الدم والعفن. كرهنا كل من يجاهر بالأمل بينما نلملم شظايا أحلامنا، وكرهنا من يبتسم بينما شلّت عضلات وجهنا من الألم والصراخ. كرهنا كل من وقف متفرجاً على مواكب عزائنا وكل من شمت بنزفنا. كرهنا الكون لأن الشمس ما أنفت تطلع عليه بينما سحقتنا سحابة الفطر المهولة. ومنذ 4 آب، ونحن نحزم حقائبنا، ثم تلمسنا يد إلهية لنفرغها مجدداً، ثم نحزمها في اليوم التالي، ثم ننظر إلى صغارنا…

منذ 4 آب، ننام سويا في غرفة واحدة. ماذا إن انفجر سرطان جديد؟ في قلب لبناني جديد؟ في الشمال أو في الجنوب أو في البقاع أو في الجبل؟ أو مجدداً في بيروت؟ سنموت سويا… ولكن ألم نمت أول مرة؟ أهذه هي أسطورة الفينيق؟ لقد بعثنا حقاً من رمادنا… من رماد آبائنا وأمهاتنا وأطفالنا وشبابنا وجيراننا وأحبابنا والغرباء عنا والمبتسمين يومياً. لقد رحلوا وبقينا هنا لنقلّب صورهم ونفتش عن قصصهم… يا الله كم هي جميلة قصصهم، وما أجمل محياهم، وكأن الابتسامة خلقت لهم. أهذا مصير السعداء والحالمين؟ إن كان الحال كذلك، فبعد 4 آب، سنشيخ كثيراً… لأننا منذ ذلك اليوم، تنزف قلوبنا ونزين وجوهنا بابتسامات مصطنعة.

شارك المقال