صراع الحاكمين

هدى علاء الدين

استعرت مؤخراً حرب الخطابات والتصريحات المضادة بين رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة على خلفية قرار الأخير وقف الدعم عن المحروقات وفتح الاعتمادات لها وفقاً لسعر صرف الدولار في السوق السوداء. وبالرغم من أن مراحل الكرّ والفر بين الرجلين ليست وليدة اليوم، إلا أنها تأخذ منحى تصاعدياً مع تشديد الخناق سياسياً من قبل باسيل الذي يستخدم أسلحة اقتصادية مدمرة، فيلعب تارةً على وتر استنزاف الاحتياطي الإلزامي، ويهدد بحدوث المزيد من المآسي  والآلام جراء رفع الدعم طوراً.

لم يأت كلام حاكم مصرف لبنان نهاية الأسبوع الفائت من فراغ، فهو يعي تماماً أن استنزاف الاحتياطي الإلزمي هو آخر الأسلحة لتدمير اللبنانيين، وأكثر الوسائل المتاحة لمحاربته وتحميله مسؤولية هدر المليارات الأخيرة من العملة الصعبة. وقد أكّد سلامة أن الحكومة ورئاسة الجمهورية ومجلس النواب على علمٍ بقراره، مطالباً بإيقاف هذه المسرحية واللجوء إلى مجلس النواب لإقرار قانون يمول الاستيراد من الاحتياطي الإلزامي لأن الأمر لا ينجح “بالبهورة”، فالقرار ليس كما يصوّر له ولم يأخذه منفرداً لا سيما وأنه فعلياً مرتبط بإمكانيات مصرف لبنان. واعتبر سلامة أن التنظير جميل ولكن إذا تعدى استعمال الاحتياطي الإلزامي لدى المصرف المركزي الخط الأحمر، ففي ذلك مخالفة للقانون، ولا بد من وقف تمويل الاعتمادات وإعطاء البديل عبر تشريع يسمح للمصرف باستعمال التوظيفات الإلزامية لتمويل استيراد المحروقات.

سلامة  الذي قرر اليوم المواجهة علناً واصفاً جبران باسيل بحاكم البلد، رمى كرة نار الاحتياطي الإلزامي في ملعب مجلس النواب، بعدما راسل الحكومة مراراً وتكراراً من أجل استباق الأمور والقيام بما يقتضي، منبهاً من الوصول إلى مستويات منخفضة للموجودات الخارجية.  وأشار سلامة إلى أن الذل هو في استيراد 820 مليون دولار من أجل محروقات لا يتم إيصالها إلى الأسواق وليست في المواقف المتخذة من قبله، رافضاً رمي المسؤولية عليه وحده لأنها مشتركة، فهو مسؤول فقط عن تأمين الأموال. أما الكلام عن اتخاذ هكذا قرار من أجل التحدي أو القيام بأي انقلاب سياسي أو لعرقلة تأليف الحكومة التي لم تُشكل منذ أكثر من سنة، فاعتبره الحاكم كلاماً غير صحيح، فالمصرف فقط ليس على أي استعداد لصرف أموال اللبنانيين إلا بقانون يمنحه هذه الإمكانية.

من جهته، وجّه باسيل اتهمات بالجملة لسلامة بشلّ البلد ومخالفة قرار الحكومة بوقف الدعم التدريجي، وباتخاذ القرار وحيداً في سياسة الدعم منذ 17 تشرين الأول، معتبراً أن هذا القرار أحادي وانقلاب جديد وليس أقل من تفجير البلد وهو قرار قاتل. وبحسب باسيل، فإن رياض سلامة يُنفذ حرباً اقتصادية على لبنان، مشيراً إلى ضرورة إيقاف المجزرة الجماعية بحق الشعب اللبناني، داعياً رئيس الجمهورية والحكومة والشعب لمنع ما أسماه “تنفيذ المؤامرة”.

وفي النظر عميقاً لجوهر هذا الصراع، يبدو واضحاً أن أزمة المحروقات ومسألة رفع الدعم ما هي إلا غطاء مقنع لما هو أبعد من ذلك بكثير، فمشكلة باسيل مع سلامة لا تنبثق من واجب إنساني أو أخلاقي تجاه المواطن اللبناني، إنما هي مشكلة شخصية لأهداف سياسية بامتياز عنوانها “طريق الوصول إلى بعبدا والجلوس على كرسي الرئاسة”، وهو حلم يراوده منذ سنوات يسعى إلى تحقيقه مهما كلف لبنان من أثمان باهظة، فلا الانهيار سيردعه ولا تجويع اللبنانيين سيمنعه من ذلك. فالتمسك باستمرار الدعم على حساب أموال المودعين من أجل التهريب عبر الحدود هو بمثابة تقديم باسيل لأوراق اعتماده إلى سوريا – المنهارة اقتصادياً – من أجل تحقيق الهدف الحلم.

أما حاكم مصرف لبنان الذي ضاق ذرعاً بممارسات باسيل السلطوية، فتدخلاته بكل شاردة وواردة وكأنه الحاكم الناهي لم تعد محتملة، فهو يعلم تماماً أن معركة باسيل ضده لحرقه منذ بدايات الأزمة تعود إلى الخطر الذي كان يشكله سلامة حينها على حظوظه في الرئاسة، وذيول كل الهجمات المتلاحقة عليه كانت ولا تزال حتى الآن تدور في فلك تحقيق حلمه الرئاسي، حتى إن استدعاء القاضي جان طنوس له بعدما جمّد القضاء السويسري التحقيق معه، تبيّن لاحقاً أن خلفياته لم تكن إلا لمصالح وغايات سياسية.

ثمة قناعة لدى باسيل بأن إقصاء الحاكم من منصبه سيزيد من شعبيته المتهاوية، مراهناً على سخط الرأي العام من سلامة الذي يحمله مسؤولية إضاعة أموالهم المودعة في المصارف وصرف نظره عن الصفقات والسمسرات الفاسدة التي طبعت فترة توزيره في الحكومات المتعاقبة. وبالرغم من محاولاته المتكررة من أجل الانقضاض عليه عند كلّ فرصة متاحة والإطاحة به، إلا أن المؤامرات التي يحيكها من أجل ذلك لم تصل بعد إلى مبتغاها.

يقول جبران باسيل في رده على تصريحات سلامة: “لو صحيح أنا حاكم لبنان لما كنت تركتك من زمان”، إلا أن حقيقة الواقع تعكس عدم دقّة هذا التصريح، فسلامة المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية لا يزال يُسقط كل المحاولات الباسيلية للإطاحة به متسلحاً بهذا الدعم المطلق الذي أظهر جلياً فشل سياسة الرهان التي كان يتبعها باسيل من أجل جرّ أميركا للتفاوض معه حول مصير سلامة مقابل تخلّصه من العقوبات الأميركية المفروضة عليه.

يخوض اليوم حاكما لبنان السياسي والنقدي صراعاً عالمكشوف هو الأعنف منذ بدء عصر الانهيار والأزمات، وبانتظار إما عودة الحرارة إلى علاقتهما ونجاح الوساطات بينهما أو فشلها، سيبقى هذا الصراع على أشدّه ليكون الحسم فيه للأقوى.

شارك المقال