لبنان يستشهد… “القيامة الآن”!

فاطمة حوحو
فاطمة حوحو

يجلس محمد ابن الثماني سنوات على طاولة الطعام يسأل والدته المدرّسة في القطاع الثانوي، “ماما اذا قطعوا الانترنت بدنا نسافر اكيد”، ترد الوالدة “تناول طعامك الآن”، يستنكر محمد الجواب ويواصل: “ما في اونلاين كيف انت قلت لنا سأعلمكم بأفضل المدراس حتى تتخرجوا وتصير حياتكم جيدة، انت لا تخبرينا أي شيء الا كل يوم انفجار، وما في شي بالسوبرماركت، والبنزين مقطوع.. ممنوع نزور جدو حتى تُحل الازمة، وعندما نقول اعملي لنا كاتوه تتحججين بان فرن الغاز لا يدور الا على الكهربا.. وكهربا ما في، ما بدي عيش هون”.

تتدخل ابنة خالته، وهي من جيله، قائلة: “حمودي نحن سوف نذهب الى السعودية عند بابا اذا فتحوا ولم يعد هناك كورونا”.

يعلق أخوها الأصغر: “انا أساسا ما بدي ادرس لا اونلاين ولا مش اونلاين”، تضرب الام يديها على وجهها، وتجيب: “انا اذا بدي سافر حتى انت تدرس بدك تطلع أمي، عم اترك شغلي كرمالك حتى تتعلم”.

اما الجدة فتترك نفسها للبكاء، وتتمتم: “ربيت اولادي حتى لا اعود أرى احد منهم في البيت.. هل يريدون قتل الحياة التي جعلتها حياتي بوجودهم؟!”.

الوطن حيث يعيش الناس بكرامة

ليست هذه العائلة اللبنانية الوحيدة التي تفكر بالهجرة، فإن كانت أم محمد تفكر بالهجرة الى بلجيكا على امل الحصول على جنسية، فان خيار تركيا لا يغيب، وربما مصر لأنها رخيصة، المهم بالنسبة لها الهرب من وطن الجحيم.

تقول ريما لــ “لبنان الكبير”: “اليوم ذهبت الى السوبرماركت لم يعد بالإمكان شراء شيء، عندي ثلاثة أطفال افكر بمستقبلهم العلمي أولا، سندخل السنة الثالثة وهم ضحايا فوضى التعليم وكورونا والوضع المعيشي الذي اثّر في كل جوانب الحياة، تخيلي صرت اغار من اللاجئ السوري الذي بامكانه شراء قالب جبنة بيهار، شاهدت امراة سورية تشتري قالبين وانا وقفت اتأمل قالب الجبنة إذ لم يكن باستطاعتي شرائه على الرغم من أن الأولاد يحبونه أي حسرة هذه؟”.

وتتابع: “الميموزا” كلينكس صارت بــ 185 الف ل.ل، منذ زمن تخليت عن شرائها، اشتري ارخص الأنواع اليوم، شوكولا وتشيبس حلقت أسعارها الى السماء، اذا ابنتي الصغيرة دخلت لتشتري أي لوح شوكولا وعلبة عصير وعلكة وكيس تشيبس نخرج بثلاثين او أربعين الفا، سعر البوظة كورنيه 12000 ل.ل، لا نريد هذه الحياة فالوطن حيث يعيش الناس بكرامة، لا حيث تنتهك كراماتهم من سلطة فاسدة همّها مصالح العائلة الخاصة وأقصى طموحها حصة سياسية أو اقتصادية أو الحصول على رشوة مالية او شراكة في قطاع رسمي يجلب لها أرباحا”.

الليرة ليست بخير ونحن ننهار

لا تختلف حال “ريما.ع” عن حال الكثيرين من أفراد العائلات اللبنانية التي صارت تفكر بهجرة جماعية، حتى لو لم تحصل على الأموال التي اودعتها في البنوك على أساس “الليرة بخير” و”نحنا ما مننهار”، واحتياطي العملات الصعبة كبير و”عنا ذهب في مصرف لبنان”.

يقول زياد.ج: “كلو ما عاد ينفع هذا الزجل السلطوي، سنترك البلد في اقرب فرصة، انا فقط انتظر ولادة ابنتي بعد شهرين، ومنذ سنة اراسل جهات خليجية وغيرها من اجل الحصول على فرصة عمل مناسب، لي ولزوجتي الطبيبة، حتى لو بعت بيتي الذي لا املك سواه بأقل الأسعار سأهاجر لابدأ من جديد ولأضمن لابنتي مستقبلا افضل، لا بل ليكون بمقدوري شراء علبة الحليب لها والدواء والطعام، هذا البلد لم يعد لنا، غدا تتناتف عليه ايران وأفغانستان، انسوا وطنكم الذي عرفتموه وأزيلوه من الذاكرة وترحموا عليه… افضل لكم أيها اللبنانيون”.

حرب ليست كبقية الحروب

هذه نماذج تصوّر ما يعانيه اللبنانيون اليوم، نتيجة اشتداد الأزمة الاقتصادية والمعيشية، كل العائلات اللبنانية تعيش في حالة ضيق عصي على الوصف. صحيح أن اللبنانيين عاشوا من قبل على مدى عقد ونصف حربا أهلية طاحنة دمرت البلد وأفسدت الحياة اليومية، كما عاشوا حروبا مع اسرائيل وجولات قتالية تسببت لهم بمعاناة كبيرة، قيل فيها الكثير وكتب عن ويلاتها مجلدات، وأكيد بقي الكثير منها وراحت تفاصيل جد مهمة بغياب أصحاب ذاكرات خرساء قضت ما بعد الحرب الأهلية مرعوبة متوجّسة من هول ما مر بها.

حصيلة تلك الحروب كانت كبيرة جدا، شهداء وجرحى ومعتقلون ومعوقون، ودمار مهول في البنى التحتية. على الرغم من ذلك أقام اللبنانيون حفلات الزفاف والزواج، وتحدوا الصعاب، وعملوا من أجل بناء وطنهم من جديد، متغلبين على محاولات الفرقة وزرع الشقاق، بتمتين روابط الوحدة الوطنية بينهم.

أرواح هائمة في محارق النيترات والبنزين

لكن ما يعيشه اليوم أهل لبنان لا يتقبّله عقل، إذ لم تمر عليهم أيام سوداء مثل التي تمر عليهم الآن. لقد سلّموا مكرهين أثناء ثورة 17 تشرين بطريقة ما بخسارة ودائعهم، وطالبوا بوضع حد لعمليات تهريب الأموال المنهوبة التي رعتها أحزاب السلطة الحاكمة وزعماء الطوائف وكبار المسؤولين في الدولة ونادوا باسقاطها.

تأمل كثيرون بالقدرة على بناء دولة المواطنة بدلا من “التشبيح” والنهب وتهديد السلم الأهلي، لكن بعد انفجار المرفأ تغيرت الصوره نهائيا، كشّرت السلطة ونظامها الفاسد عن أنيابهما ليجد المواطن نفسه وحيدا… يتيما… عاريا… حافيا كما يقول الشاعر، من دون رئيس، ومن دون حكومة، ومن دون دولة، ومن دون دواء، وبلا مستشفى ومياه وبنزين ومازوت، هكذا هو وحده في مواجهة حرائق النيترات والبنزين يتحول الى أشلاء متفحمة، وأرواح أبنائه هائمة في مشهد لم ير العالم مثله من قبل، مواطنون متروكين لغدر الزمن الإلهي والعهد القوي والزعيم الطائفي المقدس.

لقد صار الدولار الحاكم الفعلي، وبي الكل يصرخ فينا من منفاه في قصر بعبدا “اللي مش عاجبو يفل”. ويؤكد لنا صادقا “اننا ذاهبون الى جهنم”، والكل في لبنان وخارجه في حالة عجب، لكن يتم تدارك السبب على الفور حين يستذكرون “صهر بعبدا” وطموحاته.

جرائم ترتكب كل يوم بحق المواطن اللبناني الذي ينام ويفيق على مصائب تتوالى وتطيح أي أمل بسيط للعيش الكريم في هذا الوطن الذي خسروه وهذه المرة لن يعود، فالأمل مفقود نهائيا، والحل بالهجرة ليس فقط للشباب الباحثين عن عمل أو للدراسة، وإنما لأطفال يبحثون عن مدرسة، وأم تبحث عن حليب لطفلها، ومسنّ يبحث عن دواء لمرضه المزمن، وامرأة تبحث عن ربطة خبز، وآخر يبحث عن صفيحة بنزين ليصل الى وظيفته، ومتقاعد يبحث عن أصدقاء العمر في مقهى فيجده فارغا.

العهد القوي على شعبه

يتذكر اللبنانيون هذه الأيام جيدا بشار الأسد، كيف تعامل مع شعبه وأحرقه ودمّره، كيف قام بمجازر رهيبة وهجّر الملايين وقتل الكثيرين في السجون، يتذكرون ذلك وهم يرون الملاحقات الأمنية التي يواجهها شباب قرروا أن يثوروا على الأوضاع، لكل أسبابه وأهدافه، لكن سيادة الرئيس لا يسمع أصواتهم، ولا يتنازل مسؤول من عليائه ليحقق لهم مطلبا ولو صغيرا.

تتم مصادرة كميات البنزين ولا أحد يعرف أين تذهب؟ تأتي مساعدات طبية ولا أحد يعرف في أي جحر وُضعت وأي مستشفى استفاد منها؟ يرفعون الدعم عن الدواء فلا تجد علبة لمعالجة الأمراض المزمنة أو أدوية السرطان، سيترن المياه بــ 250 الف “مش عاجبك مدام فيكي ما بقا تدقيلي”، اشتراك الموتور صار يساوي خمسة أضعاف الحد الادنى للأجور في الشهر، وليست هناك إمكانية للاحتجاج، “هيك حددت وزارة الطاقة التسعيرة ولنا الحق بزيادة 10%، واذا مش قادرة يا أم علي ركّبي بطارية بتشرج على كهربة الدولة ساعة واحدة في النهار بتضويلك ساعة كمان بالليل”.

آلو…. آلو… انقطع إرسال الهاتف. هكذا طوال الوقت تقضي منى وقتها وهي تتابع أولادها حتى يدخلوا البيت بأمان ولا يصيبهم مكروه. واحد منهم في صف البنزين، والآخر في صف الخبز، والفتاة تنتظر على الباب والدها ليأخذ قنينة الغاز الفارغة ويعبئها.

هكذا تعيش العائلات اللبنانية يومياتها، حكاياتها أشبه بروايات عبثية سوداء، عندما تكون ربطة الخبز غير مؤمنة وتباع في السوق السوداء بسعر يتجاوز الـ 15 ليرة لبنانية، يروي كثيرون كيف يأتي جيران لهم يسألون عن رغيف الخبز لأنهم لم يجدوا في السوبرماركت ويتقاسمون ربطة الخبز، أو ما تبقى منها وغدا قد يكون يوم آخر، وربما لا يجدون أرغفة أخرى أو حتى كيلو طحين لخبزه في المنزل.

اما عن أزمة الغاز فحدث ولا حرج، الناس يبحثون عن مواقد، يبنونها في مداخل البنايات لحل أزمة الغاز، ينتظرون وعود وصول البواخر لتفرج يومين ثم تعود القصة عينها، “كيف يمكن الجلوس في هذا الطقس والحرارة مرتفعة الى جانب المواقد؟ وماذا لو اشتعلت أو خرجت شرارة واشتعلت؟ فالكل يعرف أن البعض يخزن أيضا البنزين. يعني أن لبنان سيتحول إلى محرقة”، تقول ام “زينب.ق”.

يتفاجأ اللبنانيون وهم في طابور البنزين على المحطات بالكميات التي يصادرها الجيش ويكشف عمن خزّنها، الكل متهم، نوابا وأحزابا وشخصيات نافذة، ويأتي من يبرئ نفسه من تهم التهريب وهو يسيطر على الحدود وأرسل ميليشياته لحماية الحليف، والأخبار تصل وتقول إنه يقوم بتجميعها في قرى سورية ليعود ويدخلها بعد تبيض البنزين المدعوم لبنانيا على أنه بنزين إيراني “طاهر مُزمْزَم”.

لا مفر من هجرة العائلات في ظل هذه الأوضاع، إنه الحل الذي يفكر فيه الطبيب وأستاذ الجامعة وموظف الدولة والعامل الزراعي والكل، هربا من جهنم ومن محرقة تحوله إلى رقم في محصلة الضحايا المعروفين والمجهولين، والى كائن بلا ملامح ولا انتماء.

شارك المقال