لم يعد سراً أن أحداً في لبنان ينتظر أو يتوقع انتخاب رئيس للجمهورية في مستقبل قريب، لا الثنائي الشيعي ولا المعارضة ولا أي طرف اقليمي أو ودولي، ولا أحد أيضاً يملك في مكان آخر القدرة على التكهن بما ينتظر المنطقة والعالم اذا عاد دونالد ترامب الى البيت الأبيض.
فالرئيس العتيد، لم يعد بعد تحكم “حزب الله” بمفاصل السلطة في لبنان، واجباً دستورياً أو خياراً وطنياً أو حتى حاجة ادارية تنظيمية، بقدر ما أصبح أمراً قابلاً للفراغ أو للتأجيل أو وسيلة للسيطرة به على الداخل أو التلطي خلفه في الخارج.
ولم يعد أيضاً بالنسبة الى المعارضة أمراً جدياً يتطلب الكثير من الضغط الذي يمكن أن يصل الى حد الاعتصام في مجلس النواب والبقاء فيه حتى إرغام المقاطعين على التسليم بالأمر الواقع، ولم يعد أيضاً أمراً حتمياً ما دامت عاجزة عن انتخاب رئيس تثق به أو تأمن له.
الرئيس العتيد أيضاً، لم يعد هماً عربياً بعدما تحول الرؤساء منذ عهد الطائف الى رموز شكلية لا قرار لها ولا هيبة ولا حتى أي دور مستقل أو مطاط يوفق بين العلاقة مع محور الممانعة والدول العربية المعتدلة التي باتت، بحكم التجربة، ترى أن أي رئيس يصل الى بعبدا في ظل هذه الظروف لن يكون الا نسخة عن أسلافه أو على الأقل رئيساً مقيداً بما يمليه عليه “حزب الله” الذي لا يبدو تواقاً للعودة الى الحظيرة العربية ولا حتى الاقتراب منها.
وبعيداً من اللبنانيين والعرب، لا يجد المجتمع الدولي في انتخاب رئيس للبنان أي أولوية، في وقت ينشغل بما يجري في أوكرانيا وبحر الصين وغزة والبحر الأحمر والمواجهات التي تحتدم بين اسرائيل وجبهات الممانعة من الجنوب الى رفح الى اليمن وقبلها الى الضاحية الجنوبية ومدينة أصفهان الايرانية.
لكن أهم من كل ذلك، أن جميع الفرقاء المعنيين، فرملوا أبسط خطوط السعي الى ملء الشغور في قصر بعبدا، بعدما بات من شبه المؤكد أن المرشح الجمهوري دونالد ترامب عائد الى البيت الأبيض بعد أشهر عدة، وفي خلفيته عداء واضح لكل من ايران وحلفائها، اضافة الى شكوك في دور ايراني ما في محاولة اغتياله قبل أسبوعين.
ويقول مصدر قريب من حملة ترامب إن الأخير يؤمن بأن لا سلام في الشرق الأوسط ولا استقرار في ظل هيمنة ايرانية على أربع عواصم عربية تحولت هي أيضاً الى جبهات مشتعلة في مواجهة إسرائيل من جهة وأميركا من جهة أخرى، وفي ظل محاولات ايرانية حثيثة وسريعة لانتاج قنبلة نووية.
ويذهب المصدر بعيداً الى حد القول: ان محور الممانعة تلقى جواً يفيد بأن أياماً قاتمة تنتظره اذا عاد قاتل قاسم سليماني الى السلطة، وأن عليه استباق الأمور والقيام بخطوات فاعلة ومؤثرة، كأن يختار بين تهدئة الجبهات مع اسرائيل أو تفجيرها دفعة واحدة، بحيث تضع ترامب أمام واحد من خيارين، اما التوصل الى تسويات متوازنة في مقابل تهدئة الجبهات، واما الدخول في حرب شاملة وليكن بعدها ما يكون.
ويتفق الكثير من المراقبين على أن الشاب الذي أطلق الرصاص على ترامب أطلقه في الواقع على محور الممانعة الذي كان مطمئناً الى حد كبير أن فرص عودته الى الحكم شبه معدومة، مؤكدين أن هذا المحور يتخوف من أن تنقلب الأمور رأساً على عقب، بحيث ينتقل من حرب خاسرة من أجل غزة الى حرب غير مضمونة من أجل الهلال الفارسي من طهران الى البحر المتوسط.
بوادر مثل هذه الحرب، بدأت بالغارات الاسرائيلية على مواقع الحوثيين في الحديدة في خطوة تصعيدية مجنونة قد تجر الى واحد من أمرين: اما مواجهة واسعة قد تتورط فيها ايران وأميركا وحلفائهما، واما احياء الحرب الأهلية في اليمن بحيث يصبح الحوثيون بين ناري الداخل والخارج معاً.
والواقع أن رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتنياهو أراد التوجه الى الكونغرس الأميركي وفي يده ثلاث أوراق ضاغطة، الأولى رأس محمد الضيف، والثانية إظهار قوة اسرائيل الجوية القادرة على الضرب في أي مكان، والثالثة تحرره من ضغوط الرئيس جو بايدن الذي تحول بعد انسحابه من معركة الرئاسة الى مجرد رئيس تصريف أعمال.
وسط هذه التعقيدات والتراكمات والتباينات، بات الحديث عن انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية أمراً ثانوياً لا يمكن أن يتحول الى أمر حيوي الا عندما يعود أحد الطرفين من الحرب منتصراً بالكامل أو مغلوباً بالكامل، خصوصاً أن ما يجري في الجنوب والمنطقة في الوقت الحاضر لا يجد مكاناً للحلول الوسط، في وقت تعتبر اسرائيل أنها تخوض حرب وجود، وتعتبر ايران أنها تخوض حرب نفوذ، وتعتبر أميركا أنها في حاجة الى رئيس قوي يطلب من الرئيس الروسي أن يهدأ، ومن الرئيس الصيني أن يتروى، ومن الامام خامنئي أن يتعقل، ومن الرئيس الاسرائيلي أن يفعل ما يشاء.
نتنياهو يعرف ذلك، وراح يقصف في قلب اليمن، و”حزب الله” يعرف ذلك فراح يلوح بحرب شاملة تشمل كل الجبهات، معتبراً ما أصاب الحديدة عملاً يتجاوز كل الخطوط الحمر، متناسياً أن هذه الخطوط سقطت عندما قضت اسرائيل على صالح العاروري ورفاقه في عمق الضاحية الجنوبية وعلى أركان “الحرس الثوري” في عمق دمشق.
في الحصيلة، يمكن القول ان التعجيل في انتخاب رئيس، يشبه ميشال عون قبيل استلام ترامب مهام الرئاسة كما حدث في المرة الأولى غير وارد اليوم، وان انتخاب رئيس آخر يشبهه بعد عودته غير وارد أيضاً.
انها الزاوية الصعبة التي حشر “حزب الله” نفسه فيها، فهي لم تكن ممكنة قبل “طوفان الأقصى” ولن تكون ممكنة بعد عودة ترامب المحتملة، ولن تكون ممكنة كما يأمل الممانعون الا اذا خرجوا من غزة منتصرين، ومن اليمن منصورين، ومن الجنوب غالبين، ومن الانتخابات الرئاسية الأميركية وهم يحملون كاميلا هاريس على أكتافهم مهللين ومكبرين.
في الانتظار، ليس مهماً لكل الناخبين المحليين والخارجيين، اذا نبت العشب على أدراج بعبدا، بقدر ما يهمهم ما قد يفعل ترامب “الراجع” وما قد تفعل ايران في حرب لا يمكن أن تنتهي الا اذا أعطت السلطة الفلسطينية وطناً نهائياً وأعطت اسرائيل سلاماً دائماً.
وفي الانتظار أيضاً، لم يبقَ أمام اللبنانيين الا واحداً من ثلاثة خيارات: اما فيدرالية تشبه فيدرالية “حزب الله” غير المعلنة وهو أمر غير ممكن من دون مظلة دولية، واما القبول بأي تسوية تأتي على حساب لبنان واللبنانيين السياديين، واما الوقوف على ضفاف النهر لمعرفة جثامين من تجرفها المياه الصاخبة غداً، جثامين ايران أو اسرائيل أو لبنان؟