السيد الرئيس… أبعِد شهودك !

أنطوني جعجع

لقد أخذ المبادرة “بعدما عاكسه حاكم مصرف لبنان وقاطعه رئيس الحكومة المستقيلة وخيّبه مجلس النواب” .. لقد “انتصر” دفعة واحدة على ثلاثة كيانات تمسك مفاصل البلاد على المستويات المالية والتتشريعية والتنفيذية، ووضع حلاً “استثنائياً” لأزمة محروقات لم يسبقه إليه أحد .

إنه ميشال عون، الباحث عن أي انتصار أو أي إنجاز أو أي شيء يمكن أن يضفي بعض الإيجابية على عهد لم يشهد لبنان شبيهاً له حتى في أسوأ مراحله وأكثرها فلتاناً وفوضوية وفساداً واحتلالاً…

والسؤال: هل كان يستأهل هذا الحل المؤقت لأزمة محروقاتٍ لا حل بعيد المدى لها، هذه الإطلالة التي حاول من خلالها تمربر رسالة “عنترية وهمشرية” إلى جمهوره اكثر منه إلى اللبنانيين، يؤكد فيها أنه لن يتراجع، ولن يستقيل، ولن يتنحى على الرغم من “الكيديات والشعبوبات والحملات الإعلامية”، وأنه لا يزال ذاك الجنرال “الشعبي” الذي يقف على شرفة القصر الجمهوري ليقول “ان العالم ينفجر إذا اصطدم به” وأن أحداً “لن يأخذ توقيعه إلا على جثته” وأنه سيكون “آخر من يغادر القصر”.

نعم إنه الرجل نفسه والجمهور نفسه، لم يتغير شيء لا في ادائه ولا في قناعاتهم. هو لا يعترف بخطأ أو فشل أو تقصير، وهم لا يحاسبون ولا يحللون ولا يقاربون الواقع ولو حلَّ مليئاً بالخيبات والسقطات والهزائم .

والسؤال أيضاً: لماذا لم يحدثنا الجنرال عن الباخرة الإيرانية المبحرة نحو لبنان؟ هل هو من المؤيدبن أو المعترضين؟ هل هو من العالمين أو الغافلين؟ هل لديه إجابات عما يمكن أن يَسأل عنه في ما يتعلق بشقها القانوني، أو بهيبته القيادية أو بسيادة لبنان وقراره الحر؟ هل لديه إجابات عما يمكن أن يتعرض له لبنان من ردات فعل أميركية ودولية حيال خطوة تنتهك العقوبات المفروضة على إيران و”حزب الله” معاً؟

هل يملك الجرأة بحيث يقول للسيد حسن نصرالله: أنا صاحب القرار هنا، وأنا من يوقع على أي اتفاق دولي، وأنا من يعرف كيف يجد المخارج والحلول، ومن يبرم الصفقات والعقود، ويطلع على الشروط والمناقصات، ومن يدَّور الزوايا في ما يتعلق بالتعقيدات الدولية وأحوال الكباش القائم بين الأميركيين من جهة والإيرانيين والسوريين من جهة ثانية؟

وأكثر من ذلك، ألم يكن حرياً به أن يوجه كلامه إلى نصرالله معاتباً أو منتفضاً، وإلى المهربين والفاسدين والمرابين رادعاً وزاجراً بدل أن يخاطب جمهوره مبرراً وممنناً، وبدل البحث عن ضحية أو كبش محرقة يُبعدان الشبهات عن أصل الداء أو عن شريك في الداء هو أقرب الناس إليه؟

ألم يكن حرياً به أن يطل على الناس ليعلن ولادة حكومة تلبي طموحات الناس وتفتح الباب على العالم الحر والمجتمع العربي، لا طموحات الأقربين حتى لو قدم فيها بعض التنازلات أو التضحيات التي يمكن أن تسهم في انتشال لبنان مما هو فيه؟ ألم يكن حرياً به أن يُطل على الناس ليعلن أنه دعا إلى وضع خطة أمنية حاسمة ومحكمة لقمع عمليات التهريب عبر الحدود، والتوقف عن امتصاص الجيوب اللبنانية لملء الجيوب السورية والإيرانية؟ ألم يكن حرياً به الإعلان عن بدء تحقيق شفاف يسأل فيه عن عرابي العتمة السائدة والسدود المثقوبة وما لفهما من شبهات وعمولات وسمسرات، وعن البنى التحتية المهترئة، والأموال المنهوبة والمهربة والمحجوزة، وعن نزيف الهجرة المتسارعة والشاملة، وعن الاحتكارات وعمليات التخزين والتزوير، وعن السلاح الذي يضرب من الجنوب ويضع لبنان في فم الذئب؟ اليس حرياً به أن يُطل على الناس ليكشف لنا لماذا لا تتشكل الحكومات لا في عهد مصطفى أديب ولا في عهد سعد الحريري، وربما في عهد نجيب ميقاتي؟ ولماذا لا يدعو إلى ملء الفراغ في المقاعد النيابية الشاغرة، ولماذا يعاني لبنان هذه العزلة العربية والدولية الخانقة؟ ولماذا لا تمر المساعدات والتقديمات الخارجية عبر وزاراته الفاسدة؟ ولماذا يفتح ملفاً لمن يطيع ويحجب ويقفل ملفاً لمن يعاكس أو يفضح؟ ولماذا لا يخاطبنا العالم إلا بسلاحين: سلاح العقوبات وسلاح المعونات التي تعاملنا وكأننا شعب خارج من غياهب التاريخ؟

وبعد، لماذا لا يُطل على اللبنانيين ليشد على يد المحقق العدلي طارق البيطار ويدعو من يطاولهم الأمر إلى الامتثال لأمور التحقيق بعيدا من أي حصانات أو محسوبيات أو حسابات؟ ولماذا لا يدعو أهل الضحايا إلى القصر الجمهوري من دون شروط مسبقة ومن دون خوف أو حرج حيال سؤال لا يملك جوابه أو لا يجرؤ على قوله … ؟ ولماذا لا يجول على العالم لتأمين مقومات الصمود للجيش الذي يريد منه حماية النظام لا حماية البلاد، أو لماذا يلجأ إلى مجلس الأمن عندما يتعرض حزب الله لاعتداء إسرائيلي حتى في عمق دمشق، ولا يلجأ إليه عندما يقتل مئات المدنيين في عمق بيروت.

هذا غيض من فيض أسئلة لا يملك إجاباتها إلا من يشبه ميشال عون، أي الرجل الذي يمر على “قبة” الفشل متعامياً ويمر على “حبة النصر” متفاخراً… ولا يملك تفسيراً لها إلا من لا يمكن أن يتغير لا في البزة العسكرية ولا في البزة الرئاسية، فالمسألة ليست مسألة شكل ومظهر، بل مسألة أداء ونهج وذهنية تأخذ ولا تعطي، وتصمد حين يجب أن تهرب كما يحدث الآن وتهرب حين يجب أن تصمد كما حدث في الأمس.

مشكلة لبنان مع ميشال عون، تكمن في أن الأخير لم يكن يوماً رجل المرحلة، ففي قيادة الجيش لم يكن حاضراً لا بين جنوده ولا بين جبهاته، وفي الحكومة الانتقالية لم يكن أميناً على الدستور، ولم يكن متجرداً من أي طموحات شخصية، فتربع على كرسي الرئاسة الأولى، ليفجر أمراً واقعاً أخل بكل موازين القوى المحلية، واسقط كل الخطوط الحمر القائمة حول لبنان. وفي العمل السياسي المدني، ناصر “حزب الله” والمحور السوري الإيراني، فأسهم في عزلة لبنان في مكان وفي إسقاط التيار السيادي في مكان آخر، وفي الرئاسة الأولى استسلم تماماً لمن احتضنه مرشحاً دائماً واقتحم به القصر الرئاسي عبر “القوة الناعمة” وراح يتفرج على صفقات وتمريرات تعبر فوق الطاولة وتحتها من دون أن يحرك ساكناً ما دام أقرب الناس إليه متنعماً بما يسقط في جيبه، وما دام حليفه متنعماً بما يحمله في يديه.

وأخيراً أيضاً، نقول للجنرال، لا تبك على صلاحيات كنت السبب الأساسي في فقدانها، ولا تحن إلى صلاحيات فرطت بها عندما كانت كلها ملك يديك.

السيد الرئيس… لم يبق إلا عام واحد على الولاية، ما فات قد فات، عبثاً إقناع الناس بأنك المنقذ من الضلال، وبأنك ربان السفينة الذي لا يغرق ولا يستسلم أو يرمي الشراع، ألا يُقال في العادة لمن يدعي البطولات الوهمية: أذا أردت أن تبالغ فابعد شهودك؟

شارك المقال