من سينتصر: محور السيّد أو حياد البطريرك؟

جورج حايك
جورج حايك

من ينظر إلى لبنان من بعيد يُلاحظ أن هناك مشروعين لا ثالث لهما، المشروع الأول يحمله “حزب الله” وأمينه العام السيّد حسن نصرالله وهدفه، ظاهرياً، المقاومة ضد إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والمساهمة في تكريس سيطرة إيران على دول المنطقة، ما يعني جعل لبنان في محور معاد للغرب والعرب، وما يستتبع ذلك من عقوبات على لبنان وأثمان باهظة تنعكس على الاستقرار والاقتصاد والتطوّر.

أما المشروع الثاني فتبشّر به البطريركيّة المارونيّة وسيّدها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي وهدفه الحياد الايجابي واستقرار لبنان وإبعاده عن نزاعات المنطقة، وتأمين اقتصاد قوي والمحافظة على التعايش المشترك، وتكريس علاقات لبنان الوديّة مع كل الدول، شرقاً وغرباً.

لذلك لا بد من المقارنة بين المشروعين لوضع النقاط على الحروف:

المشروعان متناقضان حتماً ولا قواسم مشتركة بينهما، لذلك لا يبدو أن هناك فرصاً كي يلتقيا أو يتحاورا لأن أهدافهما مختلفة.

كل يوم أحد، يلقي الراعي عظة منبّهاً إلى ضرورة اعتماد مشروع الحياد الايجابي وعقد مؤتمر دولي من أجل لبنان. المطلبان أصبحا “لازمة” يكررها الراعي من دون كلل أو ملل، ومن الواضح أن الرجل يسير على خطى أسلافه الذين دافعوا عن الكيان اللبناني حتى قبل الاستقلال وبعده، وكانوا من أوائل المطالبين بدولة لبنان الكبير قبل أن ينضم إليهم الشركاء في الوطن من الطوائف الأخرى.

ولا شك في أن طروحات الراعي تشبه ما تطالب به أكثرية الشعب اللبناني الذي ضجر وتعب من الرهان على المشاريع الإقليمية والشعارات المستحيلة، وبات يطالب بالعيش الكريم ودولة فعلية تضمن المستقبل للأجيال الجديدة في منأى عن صراعات الدول الكبيرة وخلافاتها. ومطالب البطريرك الراعي تتقاطع مع مطالب أكثرية الثوار والمجموعات المدنيّة التي أقامت الدنيا ولم تقعدها خلال ثورة 17 تشرين الأول 2019.

في المقابل، يطل نصرالله بكلام لا يرضي سوى جمهوره العقائدي الذي يقتصر على جزء من الطائفة الشيعية الكريمة وبعض الأحزاب اليسارية التي تدور في فلك الممانعة. ويغلب على خطابه الهمّ الإقليمي على الهموم اللبنانية، بحيث يشعر السامع أن لبنان ليس من أولويات “حزب الله”، بل هو ساحة ينطلق منها لخدمة المشروع الإيراني الذي يبدو أن هذا الجمهور يؤمن به وجاهز للاستشهاد من أجله، ويتضمن استعداداً للدخول في حروب مع إسرائيل والولايات المتحدة وبعض دول الخليج لتحقيق حلم “ولاية الفقيه”. هذا الجمهور لا تزعجه فكرة الضيقة الاقتصادية والمعيشية أو على الأقل قادر على التأقلم معها، لنصرة القضية الكبرى وهي “إزالة إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية من الوجود!”.

جزء كبير من الشعب اللبناني لا يشعر بأي صلة تربطه في هذا الخطاب، بل يكاد يختنق معيشياً واقتصادياً نتيجة وقف المساعدات الغربية والعربية، ويعاني من الإذلال، حتى إنه لم يعد قادراً على انتظار مساعي البطريرك الراعي الحميدة لترجمتها إلى أفعال!

لم يوفّر البطريرك جهداً ليحقّق أي اختراق دولي ولبّى دعوة الفاتيكان عاصمة الكثلكة والبابا فرنسيس إلى الصلاة والحوار مع بطاركة آخرين، من أجل الاتفاق على خارطة طريق تنقذ لبنان من كوارثه السياسية والاقتصادية. لكن في الواقع لا يبدو أن الحركة الفاتيكانيّة أثمرت حتى الآن، رغم التقائها مع مبادرات فرنسيّة وأوروبيّة، إلا أنها تحتاج إلى الفعالية وربما إلى وقت طويل، في ظل انشغال الإدارة الأميركيّة الجديدة في الإنسحاب من افغانستان والصراع مع الصين! إلا أن البطريرك لم يستسلم ويبحث عن لقاءات مهمة مع الرؤساء في عواصم القرار وخصوصاً الرئيس الأميركي جو بايدن، ويقوم باتصالات مع قيادات الأمم المتحدة لبلورة الصورة أكثر والاتفاق على مؤتمر دولي يعمل على تنفيذ القرارات الدولية في شأن لبنان ويكرّس حياده.

أما نصرالله فلا ينقصه شيء ليكرّس لبنان في محور المقاومة والممانعة، إذ يتلقى الدعم الذي يريده من حاضنته وراعيته إيران، من سلاح وتدريب ومال ونفط ليكون مرتاحاً في تبعيّته لها، مقابل أن يضع قرار لبنان الرسمي في يد المرشد الأعلى علي خامنئي. ويُشرف نصرالله على تنظيم عسكري أشبه بجيش كامل العتاد والعديد، مجهّز بـ150 ألف صاروخ، كلّها في خدمة المشروع الإيراني، فكيف تكون الدولة اللبنانية مستقلة وسيّدة وحرّة في هذا الوضع؟

من جهة أخرى، يلاقي مشروع الحياد الذي أطلقه الراعي تأييداً شعبياً، لكن لم تُظهر القوى السياديّة الأساسية حماسة لتبنيه، باستثناء “القوات اللبنانية” و”الوطنيين الأحرار” وفارس سعيد وبعض الشخصيات السياسية والمجموعات المدنيّة المنبثقة من ثورة 17 تشرين، وهذا لا يكفي، إذ كان من الضروري أن يلقى تأييداً وحماسة من الأحزاب والتيارات السياديّة من الطوائف غير المسيحية أيضاً، ليكون المشروع عابراً للطوائف، إلا أنه من دون شك لكل حزب أو تيار حساباته الخاصة في لبنان.

إقرأ أيضاً: البطريرك يريد والوطن يريد والرئيس لا يريد

في المقابل، ليس هناك تعاطف كبير من الشعب اللبناني مع مشروع محور المقاومة، إلا أن ثمة تيارات وأحزاباً سياسية تلتقي مع “حزب الله”، إما عقائدياً أو عن مصلحة، وهي عديدة كالحزب القومي السوري الاجتماعي والمردة والتيار الوطني الحر والشيوعي وحركة أمل وغيرها.

يمر لبنان في مرحلة حسّاسة وخطرة، وهذا ما يتهيّبه البطريرك الراعي، لذا يطالب في حكومة لاجتياز المرحلة، فيما “حزب الله” يريد حكومة لكن بشروطه وشروط حلفائه كي يضمنوا الفوز بالانتخابات النيابية والمرحلة التي ستليها، وهنا بيت القصيد!

في المحصلة، يتحدث الراعي ونصرالله عن لبنانين مختلفين، والمسألة لا تحتمل التأويل، فالطرحان واضحان، وعاجلاً أم آجلاً، سيضطر المسؤولون عن القوى السياسية إلى الجلوس على طاولة حوار، فإما يحصل اتفاق أو قد يكون الخيار هو الافتراق، فلا يجوز أن تستمر معاناة الشعب اللبناني إلى ما لا نهاية، وليس صحياً أن نورّث الأجيال الآتية خلافاتنا الجوهريّة، ولا أحد يستطيع أن يفرض أسلوب عيشه وخياراته على الآخرين، وبالتالي نأمل في عدم استهلاك المزيد من الوقت لممارسة الغلبة والهيمنة، لأن هذا من شأنه أن يؤدي إلى زوال لبنان بالكامل، لذلك الحوار الصريح وحده يحل أزمة لبنان الكبيرة.

شارك المقال