ميقاتي… هل فعلها ثانيةً؟!

أنطوني جعجع

هل ما فعله الرئيس نجيب ميقاتي أمس في زمن “ما تحت الطاولات”، شبيه بما فعله في زمن “القمصان السود”، متخلياً كما في المرة الاولى، عن توجهات “الرابع عشر من آذار” ومزاج الشارع السني وتوجهات نظرائه السابقين، اضافة الى طموحات “ثورة السابع عشر من تشرين”.

قد يكون في هذا الانطباع الكثير من القسوة لا بل الكثير من الاستباقيات في مرحلة تغير لونها من يوم الى آخر، لكن ما جرى لا ينفي ابداً ان الرجل كان في وارد القبول بأي تسوية حكومية لا تضطره الى الاعتذار على غرار ما أصاب مصطفى أديب وسعد الحريري، معتبراً أن موقعه السني والوطني لا يقبل أي انتكاسات من أي نوع، وان الذهاب الى الانتخابات النيابية المقبلة كرئيس للوزراء يبقى افضل حالاً من الذهاب اليها كمرشح مثخن بالجراح او مثقل بالشبهات التي حاولت السلطة الصاقها به يوم كان خصما سياسيا لها…

ولا ينفي الكثير ممن يعرفون الرئيس ميقاتي ان الاخير يطمح للاضطلاع بالدور الذي لعبه الرئيس الشهيد رفيق الحريري، اي المرجعية السنية الاقوى في لبنان والاكثر قبولاً في الشارع السني العربي، لكن من دون ان يؤدي ذلك الى خلق حيثية تقلق “حزب الله” وايران وسوريا وتؤدي في النهاية الى تصفيته سواء سياسيا او جسديا.

انها لعبة السير بين النقاط في مكان وبين الالغام في مكان آخر، تساعده في ذلك سلسلة مصالح تجمعت في مكان واحد وفي لحظة واحدة وادت به الى مباركة حكومة ترضي ايران و”حزب الله”، وتحفظ هيبة فرنسا، وتسحب فتائل جبران باسيل، وتحد من تقلبات ميشال عون، وتهدئ الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة للتخلص من فراغ لبناني كانت ترى فيه ما يشبه الفراغ الذي اعقب الخروج من افغانستان.

وانها ايضا، لعبة الايحاء بأن ما جرى كان افضل الممكن بين خياري الفراغ او الاستسلام، محاولاً تسويق حكومة قائمة على نصف هزيمة ونصف انتصار او على الأقل حكومة يخرج منها كل فريق رافعاً شارة النصر.

هذا في الشكل، لكن المضمون هو عكس ذلك تماماً، اذ ان ما خرج به الرئيس ميقاتي من قصر بعبدا، كان هدية ثمينة حفظت ماء وجه الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وهو على ابواب انتخابات رئاسية صعبة، وورقة ثمينة في يد الرئيس الايراني ابراهيم رئيسي، القلق من الضغط الفرنسي – الدولي على تجاوزات بلاده في ملف البرنامج النووي، ومن الحملة الاعلامية التي تطاول دوره في “لجنة الموت” التي تخلصت من اكثر من ثلاثين الف معارض ايراني في ثمانينيات القرن الماضي، ومتنفساً ثميناً لـ “حزب الله” الذي يواجه حملة محلية من الخصوم والحلفاء تحمّله المسؤولية عما اصاب لبنان من حصارات وعقوبات، ونافذة يتسلل منها الرئيس بشار الاسد الى المعادلة اللبنانية تمهيدا للعودة اليها من الباب العريض، وجسراً ثميناً للنائب باسيل يراهن عليه للوصول الى غالبية نيابية تفتح له طريق الخلافة، ونصرا معنويا للرئيس عون الساعي لاستعادة هيبته في صفوف جمهوره وخلق ارضية يظن انها تبقيه في القصر في حال الفراغ او يخليه للصهر في حال الانتصار.

وهنا لا بد من سؤال اساسي: هل وافق سعد الحريري على اعطاء عون و”حزب الله” من خلال ميقاتي ما لم يعطهما اياه مباشرة؟ واذا كان ذلك صحيحا فعلام استند في حساباته الجديدة وعلى ماذا حصل في المقابل؟

وهنا لا بد من سؤال آخر: ماذا كسب نجيب ميقاتي من هذه التسوية الحكومية وماذا دفع؟

الجواب ليس صعبا الى حد كبير، ما كسبه الرجل يتمثل في امر جوهري واحد، ويشبه الى حد كبير النظرية التي تقول إن مجلس النواب بلا نبيه بري لا يمكن ان يعمل، وان مجلس الوزراء بلا نجيب ميقاتي لا يمكن ان يقلع، وان الموقع المسيحي بلا التيار الوطني الحر لا يمكن ان يكون محمياً او مصوناً.

اما ماذا دفع مقابل عدم الاعتذار في مرحلة اولى والحصول على غطاء مسيحي يحفظ الميثاقية، وثقة كتلة “لبنان القوي” في مرحلة ثانية، فيراوح اما بين تبادل اصوات في الشمال واما تجيير اصوات في المعركة الرئاسية، على الرغم من ان مثل هذه الصفقة لا بد من ان تصطدم بعوامل اخرى تتقدمها العلاقة العضوية القائمة بين ميقاتي وسليمان فرنجية…

اضف الى كل ذلك، هل يستطيع جميع المنتصرين في هذه التشكيلة الحكومية ان يصلوا الى الانتخابات النيابية المقبلة وفي جعبتهم ما يمنحهم الانتصار الموعود اي الغالبية في المجلس النيابي الجديد؟

شيء واحد لم يتنبه اليه كل هؤلاء ويتمثل في ان من يملك مفتاح “النصر المبين” ليس موجوداً لا في فرنسا، ولا في طهران، ولا في دمشق، انه في مكان آخر بين واشنطن والرياض وصندوق النقد الدولي، وكل ما عدا ذلك ليس سوى ضرب في الهواء.

ولا يختلف اثنان على ان هذه الحكومة ما كانت لتتشكل لو لم ترفع اميركا عصا العقوبات قليلاً عن الجبهة السورية، وشبح الضربات العسكرية الاسرائيلية عن  الجبهة الايرانية، ولو بشق النفس، معتبرة بعد الخروج من افغانستان، ان لبنان وأي دولة صديقة او حليفة اخرى، لن يكون ذبيحة للممانعين على طاولة المفاوضات المقبلة في فيينا، ومبلغةً من يعنيهم الامر: ممنوع ان يخرج لبنان من بيئته التاريخية، وممنوع ان يخرج من المحور الذي يشبه الغرب ولا يتعارض مع العرب، ومؤكدة ان من يضع العقوبات هو من يرفعها او يحد منها، تماما كما فعلت من خلال استجرار الكهرباء والغاز من مصر والاردن، لا من خلال استجلاب باخرة مازوت من ايران…

وثمة من ينقل عن مسؤولين اميركيين ان واشنطن ابلغت عون بأن الحصول على غالبية حكومية شيء والحكم شيء آخر، قائلة إن اكثر ما عليه ان يفعله هو منع الانفجار الاجتماعي في ما تبقى من عهده، ونقل المعركة من كواليس بعبدا الى صناديق الاقتراع… وثمة من يقول ايضا في الكواليس إن الليونة الاميركية ليست بطاقة مرور دائمة، وان كل خطوة ايجابية يجب ان تقابل بخطوة مماثلة، وان كل نزال يجب ان يواجه بنزال مماثل، مشيراً الى  ان اي دولة او منظمة سواء عربية او غربية لن تقدم اي خدمات الى هذه المنظومة قبل الحصول على مباركة الاميركيين، ملمحا بذلك الى القرض الكويتي الذي يحاول ميقاتي ضخ الحياة فيه.

وأضاف ان واشنطن تتبع سياسة الفصل بين ما يمكن ان يخدم اللبنانيين وما يمكن ان يخدم السياسيين، مؤكدا انها لن تدفع في اتجاه انتخابات نيابية يكون فيها الشعب مديناً بالكثير للطبقة الحاكمة التي تحاول ان تستغل ما قد تتلقاه من مساعدات مالية لشراء العقول والنفوس.

هل يبارك ميقاتي هذه الحقيقة ويعتبرها أفضل الممكن؟ ام ان السلطة تبقى بالنسبة اليه، على غرار عون، الغاية الأسمى ولو جاء بعدها الطوفان؟!

شارك المقال