نتاج الأزمة… هجرة معاكسة!

راما الجراح

تبدّلت الأحوال، والزمن الأوّل تحوّل! دخلنا في زمن الهجرة المعاكسة، بعدما اعتدنا في لبنان على الهجرة من الريف إلى المدينة، التي بدأت مع إنشاء دولة لبنان الكبير، بعد تركيز الدولة لخدماتها في المدن، وافتتاح مشاريع هائلة ضمن القطاع الخاص هناك بهدف الربح السريع. ونقف اليوم أمام مشهد استثنائي لم تمر به البلاد حتى في مرحلة الحرب الأهلية التي تعتبر من أصعب الفترات التي عانى منها لبنان ما عاناه من خسائر بشرية ومادية.

الأرياف تحتضن اللبنانيين

أصبح الريف الحضن الدافئ لأغلب اللبنانيين القاطنين في المدينة منذ زمن طويل. الحضن الذي يحميهم من المصائب والأزمات التي كلما اشتدّت وتيرتها، ضاق حبل المشنقة حول رقبة رب الأسرة حدّ الاختناق. كارثة معيشية كبيرة يعيشها اللبنانيون منذ أكثر من سنة ونصف سنة، بسبب الفساد في إدارات الدولة التي أدّت إلى إخلاء الشقق السكنية في المدن، وزيادة الضرائب، وارتفاع جنوني في الأسعار، وتكاليف أقساط المدارس الباهظة ووسائل النقل، عدا عن الرواتب الشهرية التي بأغلبها لم تتغيّر… جميع هذه الأسباب وغيرها، وقفت بوجه سكان المدن، فتركوا العلم والعمل في المدينة وانتقلوا إلى القرى الجبلية والبقاعية.

بدأنا نلاحظ حركة النزوح هذه منذ فترة التعبئة العامة، وامتدّت حتى بقي البعض في القرى، وبدأت تتزايد مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، وازدهرت القرى بأهلها الذين اعتادوا زيارتها في الإجازات. وتُخبر ياسمينة التي كانت تعمل محاسبة في إحدى الشركات، وزوجها كان يعمل مشرفاً في مطعم في شارع الحمراء، أنهما انتقلا إلى الجبل في منطقة كسروان بسبب خسارتهما لعملهما.

وتضيف: “جاء الانتقال نتيجة عدم توافر الإمكانات المادية لدفع تكاليف الشقة التي نعيش فيها، والتي تبلغ مليوني ليرة، بالإضافة إلى اشتراك 2 أمبير بسعر 600 ألف ليرة، عدا عن الطعام والشراب ومصروف البنزين وأجرة النقل في حال عدم توافره في المحطات. كل هذه الأعباء أثقلت حملنا، ونحن عريسان جديدان، لم يمضِ على زواجنا بعد سنة كاملة. ولو كنا نملك الإمكانات المادية والإرادة للهجرة إلى الخارج لفعلنا ذلك، لكن الهجرة إلى الجبل كانت الحل الأوفر والأنسب لنا في ظل هذه التكاليف المادية المحيطة بنا، لما فيها من وفرة في النقل وحاجتنا من الطعام والمواد الغذائية. وبدأت وزوجي العمل في أحد مطاعم القرية، كما كنا: انا كمحاسبة وهو كمشرف”.

أقساط المدارس “فرقت النصف!”

وأم علي، والدة لـ4 شباب وشابتين لا يزالون يدرسون بين المرحلتين المتوسطة والجامعية، تقول لـ”لبنان الكبير” أنّ “أقساط مدارس وجامعات أولادنا في بيروت أهلكتنا على زمن سعر صرف الدولار 1500 ليرة، فكيف سنستطيع الصمود اليوم والأقساط ارتفعت ووسائل النقل لامست المليون ليرة شهرية على الطالب الواحد، وزوجي يعمل في تركيب الألومنيوم لا يتخطى معاشه الشهري المليوني ليرة في أحسن الأحوال، لذلك قمنا ببيع منزلنا في المدينة منذ شهر أيار هذا العام، أي بعد انتهاء العام الدراسي الماضي مباشرة، وذلك لنهيئ أنفسنا وأولادنا لجو الريف ونمط العيش فيه”.

وتضيف: “انتقلنا إلى بعلبك، المنطقة التي تعجّ بالأسواق غير المزدحمة على غير عادتها، وفق ما أخبرنا أهالي المنطقة بسبب ارتفاع الأسعار الذي لم يعتادوا عليه من قبل، لكن بالنسبة إلينا كنازحين من المدينة، إذا صح الوصف، رأينا في هذه المنطقة حياة أبسط وأوفر بكثير مما كنا عليه في بئر حسن مكان منزلنا السابق”. وحسب أم علي، “أقساط المدارس بالتحديد، وأركز على هذه النقطة لأنها السبب الأساسي لانتقالنا إلى البقاع، انخفضت كلفتها عن مدارس العاصمة بنسبة 50%، أقساط أولادي اليوم في البقاع تساوي ما كنت أدفعه في بيروت سابقاً على سعر الـ1500 ليرة”.

وتختم: “زوجي منذ الفترة الأولى التي انتقلنا فيها، بدأ العمل في مصلحته كمعلم ألومنيوم، والمبلغ الذي يأخذه هنا في البقاع أكبر، ومعيشتنا أوفر”.

جميع هذه الأسباب تؤدّي إلى الهجرة المعاكسة من المدن إلى الأرياف، وفي حال استمرار تراجع الوضع الاقتصادي والمعيشي في لبنان من دون وجود أي خطط حكومية مدروسة، فسنشهد أعداداً أكبر تنتقل إلى الأرياف، الأمر الذي سيحتاج إلى تغيير كبير في نمط حياة اللبناني. كما سنشهد فوارق كبيرة بين الطبقات الفقيرة والمتوسطة والثرية، بالإضافة إلى تراجع المساحات الزراعية والبيئية في الأرياف بسبب الوافدين إليها. ويمكن أن تكون هذه الهجرة المعاكسة باباً لتطبيق نظام اللامركزية الإدارية بشكل فوري.

شارك المقال