يوم تحرير طرابلس من الصليبيين: جهادٌ حدّ من أطماع الغزاة!

إسراء ديب
إسراء ديب

ترتبط مدينة طرابلس بذكرى تاريخية لا يُمكن اغفالها منذ 735 عاماً، وما زالت جزءاً لا يتجزّأ من حاضرها ومستقبلها لأنّها قائمة بكلّ تفاصيلها، نسيجها وروحها العمرانية والثقافية، إذْ تحلّ اليوم الجمعة، ذكرى تحرير المدينة من الغزو الصليبي على يدّ السلطان المملوكي المنصور قلاوون، بعد معركة هزمت الصليبيين الذين فرّوا من طرابلس التي لقّبوها بـ “المدينة المقدّسة” في النصف الأوّل من القرن الثاني الميلادي إلى أوروبا (وفق المراجع التاريخية)، ليُعلن قلاوون ولادة طرابلس “المملوكية” التي أُعيد بناؤها بآثارها الاسلامية وزخرفاتها التاريخية، وذلك بعد حدث تاريخيّ جلل حرّر طرابلس القديمة.

وفي 26 نيْسان من العام 1289 م، تمكّن السلطان المنصور سيف الدّين قلاوون من تحرير طرابلس وفتحها بعد معركة استمرّت 33 يوماً، واستهدفت الحدّ من احتلال الافرنج الصليبيين (الذي دام لأكثر من قرن) لمدينة اتخذوا منها عاصمة لاحدى إماراتهم اللاتينية، بعد إمارة أنطاكية، إمارة الرّها ومملكة بيت المقدس، حيث فرض عليهم الخروج منها عبر السفن الحربية إلى قبرص ومنها إلى أوروبا.

وعلى الرّغم من محاولات عدّة بذلها سلاطين وأمراء كبار للقيام بهذه الخطوة التي أسّست طرابلس الجديدة، لم يتمكّن من فتح طرابلس للمرّة الثانية إلّا السلطان المملوكي الذي أطلق ابنه اسم والده، على الجامع الكبير الذي أمر ببنائه، فسمّي بـ “الجامع المنصوري الكبير” تخليداً لذكراه.

وكان حاول تحريرها الملك الشهيد عماد الدّين زنكي الذي حرّر إمارة الرّها، وكذلك ابنه نور الدّين محمود، وصلاح الدّين الأيوبي الذي انتصر على جيوش ملوك أوروبا في موقعة حطّين وتحريره بيت المقدس، وأيضاً شقيقه الملك العادل، وحتّى الظاهر بيبرس الذي وصل إلى أطراف طرابلس من دون أن يتمكّن من دخولها وتحريرها، حتّى بعد استرداده إنطاكية وفتحه البلاد التابعة لها.

هذه التفاصيل التي يرويها المؤرّخ الطرابلسيّ المعروف البروفيسور عمر تدمري، تحكي أيضاً عن المعركة الطرابلسية التي “يسّرت فتح آخر معاقل الغزاة في عكا، صور، صيدا وبيروت، وطردهم من الشام بعد 1291″، بحيث “خرج قلاوون بجيشه من القاهرة إلى دمشق (في فصل الشتاء)، وفيها تجمّعت الجيوش من مختلف أنحاء بلاد الشام، وانضمّ إلى جيشه آلاف المتطوّعين المغاربة النازحين من الأندلس، وخرج من دمشق إلى طرابلس، ففاجأ الصليبيين ورابط عند مرتفع القبّة، التي عرفت بقبّة النصر منذ ذلك التاريخ، وضرب حصاره على الفرنج مدّة 33 يوماً، وقذفهم بالمنجنيقات، ونقب الجدر والأسوار واقتحمها تحت غطاء من عشرات آلاف السهام والدّبابات الخشبية الثقيلة والأنابيب، إلى أنْ فرّ بعض القادة الفرنج في البحر إلى الجزر أمام الميناء، وقُتل بعضُهم، وأسِر آخرون، والبعض الآخر سباحة إلى جزيرة البقر حيث فرّ الصليبيون إليها، وسقطت قاعدة الامارة الافرنجية”.

ويقول رئيس لجنة الآثار والتراث في بلدية طرابلس، البروفيسور المهندس خالد تدمري لـ “لبنان الكبير”: “لكلّ مدينة يوم تحتفل فيه بتاريخها، وفي هذه المناسبة المرتبطة بتأسيسها، أعيد بناء المدينة بعد تحريرها من الافرنج، عقب معركة طاحنة دارت في طرابلس التي كان موقعها في الميناء وتحديداً في المنطقة المعروفة باسم سوق الخراب، على يدّ السلطان قلاوون بعدما استعصت المدينة على ملوك آخرين”.

ويتحدّث تدمري عن تفاصيل تاريخ التأسيس، موضحاً أن “القادة العسكريين أشاروا إلى السلطان قلاوون لنقل المدينة من الساحل إلى الداخل بغية حمايتها من الهجمات المحتملة من الصليبيين عبر البحر، فأنشأوا طرابلس المستجدّة على مسافة 3 كيلومترات إلى الداخل تحت صفح القلعة وعلى ضفتيّ النهر، وهي المدينة التي ما زالت قائمة بمحالها وتطوّراتها عبر العهديْن المملوكي والعثماني، وهو ما تُثبته سجلّات نفوس الطرابلسيين التي لا تزال على حالها، إذْ تنتمي سجلّاتهم إلى تلك المحال القديمة: النوري، الحدّادين، المهاترة، السويقة، بين الجسرين، الرّمانة، الزاهرية وصولاً إلى باب الحديد، التبانة والقبّة ومن ثمّ التلّ التي توسعت في العهد العثماني، فلا نجد مثلاً من سجلّه في شارع عزمي، الضمّ والفرز، المعرض، أو طريق الميناء، لذلك كان لا بدّ من تمثيلها من البلدية التي تحتفي بهذا اليوم تفاخراً بتاريخها، بحيث تقدّم مؤرّخ طرابلس عمر تدمري في عهد رئيس البلدية الأسبق العميد سمير الشعراني بطلب احتفال المدينة بهذا اليوم سنوياً، وهذا ما حدث، لكن انقطع الاحتفال خلال أعوام سابقة بسبب كورونا وما تبعها من أزمات عصفت بالبلدية”.

ويُضيف: “اليوم سيجري إحياء الفعالية بمعزل عن الأوضاع الصعبة، ولا بدّ من تذكير الطرابلسيين بحضارتهم، لذلك دأب نادي الآثار في المدينة مع لجنة الآثار في البلدية على تنظيم المسابقات الميدانية، الجولات السياحة، إطلاق المشاريع المرتبطة بالأبنية التراثية، أو افتتاح تلك التي تمّ ترميمها، أو إقامة أنشطة كإنارة فنية لبعض المباني كقلعة طرابلس وساحة التل، مع إجراء مسابقة تاريخية يُشارك فيها طلاب المدراس الخاصّة والرسمية بحيث يجولون في المدينة للاجابة عن أسئلة المسابقة، إضافة إلى تنفيذ المسيرة الميدانية الكبرى التي يُشارك فيها مفتي طرابلس والشمال الشيخ محمّد إمام ورئيس البلدية رياض يمق وشخصيات ثقافية، روحية، وعلمية، وذلك على أمل أن نعيد البهجة إلى المدينة بعد سنوات من الانقطاع، بحيث نرصد الوفرة هذا العام في عدد النشاطات تزامناً مع إعلان طرابلس عاصمة للثقافة العربية، وهذا دليل على التعافي نهديه إلى توأمتنا المبرمة منذ سنوات طرابلسياً مع مدينة غزة التي تربطنا بها علاقات خاصّة ببيت المقدس”.

إلى ذلك، أعلن رئيس البلدية إقفال جميع مصالح البلدية ودوائرها وأقسامها اليوم الجمعة، وفتح قلعة طرابلس أبوابها مجاناً أيّام الجمعة، السبت والأحد، في وقتٍ تستعدّ فيه المدينة لإلقاء خطابات وتنفيذ مسيرات تذكيراً بزمن “الجهاد الجميل”.

شارك المقال