الصحة النفسية: الوضع الاقتصادي مؤثر وليس مسبّباً!

راما الجراح

تعيش اليوم في أصعب حقبة تمر بها البلاد، أزماتٌ تتوالى، والأحوال تضيق، والحل بعيد. حتى اليوم لا شيء يدعو للتفاؤل في لبنان، كل ما حصل ويحصل أثره فادح في الصحة النفسية للناس. وكانت لجائحة كورونا الضربة القاضية، فقد تضررت بعض الفئات من ذلك بشكل خاص، بمن فيهم العاملون في الرعاية الصحية وفي الخطوط الأمامية، والطلاب والأشخاص الذين يعيشون بمفردهم وأولئك المصابون بحالات صحية نفسية أصلاً، وفي الوقت عينه تعطّلت بشدة خدمات الصحة النفسية والعصبية وخدمات اضطرابات تعاطي مواد الإدمان.

وبمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية، أطلقت منظمة الصحة العالمية شعار “الرعاية الصحية النفسية للجميع: لنجعل هذا الشعار واقعاً” لحملات التوعية التي تُقام على مستوى واسع من أجل تنبيه الناس إلى خطر الإصابة بالأمراض النفسية وضرورة علاجها دومًا بشكل عاجل حتى لا تتفاقم المشكلة وتتسبَّب في مشاكل نفسية أكبر من ذلك بكثير، والتي من شأنها أن تؤثر بشكل مباشر في الصحة الجسدية للإنسان، فهي التي تساعده على أن يكون شخصاً سوياً قادراً على مواجهة أصعب الظروف التي قد تمر به، كما أنها بطبيعة الحال تؤثر في الصحة الجسدية أيضاً لما لها من علاقة تكاملية، فالإنسان يحتاج دوماً إلى أن تكون صحته النفسية في حالة جيدة.

وقد كشفت منظمة الصحة العالمية، في تقرير حديث نشرته في 13 أيلول 2021، عن أحدث الأرقام في عالم الصحة النفسية والعقلية، أبرزها أن هناك نحو 280 مليون شخص (3.8%) يعانون من الاكتئاب، ويؤدي الاكتئاب في أسوأ حالاته إلى الانتحار، إذ ينتحر سنوياً أكثر من 700 ألف شخص في عطلة نهاية الأسبوع، وعلى الرغم من وجود علاجات فعالة للاضطرابات النفسية، فإن أكثر من 75% من الأشخاص في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل لا يتلقون أياً منها. 

الصحة النفسية أولاً

تؤكد الاختصاصية في علم النفس بدر شهيب أنّ “سلامة الصحة النفسية ليست ماديّة أو ملموسة، إنما يُستدلّ اليها من خلال السلوك الخارجيّ للفرد وتفاعلاته، ويختلف تعريف الصحة النفسيّة باختلاف المجتمعات وثقافتها والقواعد السلوكيّة التي تجري فيها، وتعود أهميتها الى الفرد والمجتمع، فتزرع السعادة والاستقرار والتكامل بين الأفراد، كما لها الدور المهم في اختيار الأساليب العلاجية السليمة والمتوازنة للمشاكل الاجتماعية التي قد تؤثر في سلامة عملية النمو النفسي للفرد”.

في ما يخص عوامل اضطراب الصحة النفسية، تقول شهيب: “لا شك في أن هناك عوامل تؤدي إلى تدهور الصحة النفسية عند الإنسان، فحياة الفرد الاجتماعية والنفسية والبيئية تؤثر سلباً أو إيجاباً في معدل الصحة النفسيّة التي يتمتع بها، وتالياً تؤدي إلى انتشار وظهور الانحرافات وحالات القلق والأنماط السلوكيّة غير السليمة وغيرها الكثير من الآثار السلبية، وكانت منظمة الصحة العالمية أكدت في تقريرها المختصر عن الصحة النفسيّة على اختلاف وتنوع العوامل المؤثرة في الصحة النفسية، كالاعتلالات الجسميّة، وأمراض القلب، والاكتئاب، والأنماط الصحيّة غير السليمة، وتعاطي المخدرات والأدوية، إضافة إلى الفقر، والحروب، وفقدان الأمن، وانتشار اليأس، وتدني الدخل، وانتشار البطالة، وانتهاكات حقوق المرأة والطفل، وأساليب التنشئة الأسرية العنيفة وغير السليمة وغيرها”.

وتشدّد الاختصاصية النفسية لـ”لبنان الكبير” على أنه “لا تكتمل الصحة الجسدية من دون الصحة النفسية، التي تتأثر بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والبيولوجية والبيئية التي يعتبر وضعها كارثياً في لبنان، فأزمة كورونا وما تبعها من أزمات كانفجار مرفأ بيروت وتراجع الوضع المعيشي وانهيار الوضع المالي أدت إلى حالة عدم استقرار نفسي عند نسبة كبيرة من المواطنين، فارتفعت نسبة البطالة وزادت حالات القلق والاكتئاب”.

وتختم حديثها بتقديم النصائح المفيدة: “يمكننا تحسين الصحة النفسية من خلال اتباع بعض النصائح التي يمكننا أن اتباعها خلال يومياتنا، منها مساعدة الآخرين، والاهتمام بالصحة الجسدية يؤدي إلى تحسين الصحة العقلية والنفسية، تناول الغذاء الصحي وتجنب التدخين، علاوة على تعلم كيفية التأقلم مع القلق، فالقلق لا يمكن تجنبه في الحياة، بينما التدرب على مهارات التأقلم مثل ممارسة الرياضة، وأخيراً الحب من خلال إقامة علاقات عاطفية صحية”.

تجربة شخصية: معاناة وعلاج

وتروي مارسيل دلال إحدى الناشطات في قضايا المجتمع لنا تجربتها الشخصية، وهي المدربة المعروف عنها قيامها بورشات تدريب متواصلة لحضّ الأفراد على عمل الخير، وتشجيعهم على التفاؤل دائماً، وإنماء روح العزيمة داخلهم: “اليوم العالمي للصحة النفسية بالنسبة إلي يجب عدم تحديده بيوم معين بل هو موجود كل يوم، أعتبره يوماً مقدساً يجب نشر التوعية من خلاله، لأننا في مجتمعنا نعتبرها من الاشياء الثانوية وأغلبنا لا يأخذها بعين الاعتبار، ومن خلال تجربتي الشخصية، اكتشفت أن أغلب أفراد المجتمع يعتبرون أن اضطرابات الصحة النفسية تخص أشخاص محددين في المجتمع، بينما هو يطال كل الناس من دون استثناء بكل الأعمار والأجناس، ولو كان المظهر الخارجي للشخص الراحة والطمأنينة ولا يعاني من أزمات مادية، ولكن هذا لا يعني أن صحته النفسية جيدة أو غير معرضة للأذى”.

وعن سبب معاناتها وكيفية اكتشافه، تروي: “كنت أعاني من اضطرابات نفسية بسبب مشاكل حصلت معي أيام الطفولة الصعبة، الأمر الذي انعكس سلباً على صحتي النفسية، فكنت أقرأ دائماً عن الكآبة ما بعد الولادة ولكنني لم أكن مكترثة كثيراً للموضوع حتى اكتشفته موجوداً داخلي، فهذا الوضع صعب جداً ويأتي نتيجة تراكمات لعدة أحداث سلبية وأمور نعتقد انها عادية وتمر مرور الكرام لكنها لا تكون كذلك، وشخصياً بعد أكثر من سنتين من إصابته به استطعت اكتشافه بعدما تفاقمت حالتي ووصلت الى مرحلة الكآبة الكلية لدرجة أنني لم أستطع النهوض من سريري”.

وبأسف تقول إنه “لو كان ثمّة وعي في المجتمع لحالات كهذه لما وصلت إلى هذه المرحلة، إضافة إلى أن عدم وجود داعم يفاقم الوضع أكثر، فالصحة النفسية يجب أن نفكر بها دائماً وهي لا تختلف أبداً عن الصحة الجسدية، ويجب أن نمتلك مجتمعا واعيا لها لنتفادى الوصول إلى مراحل متقدمة وصعبة، فالصحة النفسية لا تتعلق بالشكل أو العمر أو وضع اقتصادي معين، لا شك في أنها عوامل تؤثر وتفاقم لكنها ليست مُسببة، ولكن حتى لو كنا نملك الجمال والمال لا يعني أننا بخير”!

وتطالب دلال الحكومة اللبنانية بـ”ضرورة تأمين العلاج النفسي للمرضى بشكل شبه مجاني، لأنه أصبح أولوية في بلد مثل لبنان الذي يعاني ما يعانيه من أزمات تفاقم اضطرابات الصحة النفسية عند الأفراد، وأحضّ دائماً كل الناشطين والفاعلين في المجتمع على التحدث دائماً عن الصحة النفسية مع أفراد المجتمع وزملاء العمل، ونشر التوعية عنه”.

الصحة النفسية واقع يجب عدم تجاوزه أو غض النظر عنه، ولا بُد لجميع حكومات العالم وبخاصة في الدول التي تعاني من أزمات مثل لبنان، من إعطاء أهمية وأولوية لهذا الموضوع من أجل تحويل هدف الرعاية الصحية النفسية الجيدة للجميع إلى واقع ملموس، لأنه حق للجميع، والحق يعلو ولا يُعلى عليه!

شارك المقال