الهجرة… قدرٌ لا مفر منه

هدى علاء الدين

يخسر لبنان يوماً بعد يوم رأسماله البشري مع ما يمتلكه من قدرات ومهارات عالية يبدو من الصعب تعويضها، لتكون بذلك خسارته مزدوجة وقاسيةً تزامناً مع خسارة رأسماله المالي والنقدي والمادي كمورد اقتصادي واستثماري ومدماك أساسي لبنية اقتصاده وإعادة النهوض به مع غياب واضح للقرار السياسي بعدم الإنقاذ وتعمّد الانهيار. فالأزمات المترابطة والمتشابكة اليوم هي أشد وطأة من كل الحروب والصراعات والهزات الأمنية التي مرّ بها لبنان سابقاً، والنجاة منها يبقى في الرحيل فقط، في ظل واقع ضاغط واقتصاد متدهور وحالة من الإحباط أصابت الفئة الشبابية في الصميم، وجعلت من الهجرة قدراً لا مفر منه.

200 ألف في أربع سنوات

أدت الأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية التي يشهدها لبنان إلى ارتفاع كبير في أعداد المهاجرين والمسافرين بحثاً عن فرصة عمل يفتقدونها في وطنهم، أو عن خدمات حياتية أساسية أصبحت شبه معدومة من الكهرباء والمياه والصحة والنظافة، حسب “الدولية للمعلومات”. وتشير الأرقام إلى أنّ عدد اللبنانيين المهاجرين والمسافرين منذ بداية العام 2021 وحتى منتصف شهر تشرين الثاني الماضي قد وصل إلى 77.777 فرداً مقارنة بـ 17.721 شخصاً عام 2020 (أي بزيادة فاقت الـ 60 ألف مهاجر)، وتُعد أرقام هذه العام الأكبر والأعلى مقارنة بالأعوام الثلاثة السابقة. ففي عام 2018، وصل عدد المهاجرين والمسافرين إلى 33.129 فرداً، في حين وصل عددهم إلى 66.806 فرداً عام 2019، ليتخطى بذلك المجموع الـ 195.433 ما بين مسافر ومهاجر.

100 ألف في الـ 2022

وتعليقاً على الأرقام أعلاه، يرى الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين، في حديث لـ”لبنان الكبير”، أنّ الارتفاع في أعداد المسافرين والمهاجرين عام 2021 بعدما شهد انخفاضاً عام 2020، هو مؤشر واضح وانعكاس خطير لمدى تدهور الأوضاع في لبنان، متوقعاً أنه وفي حال استمرت هذه الأزمة في منحاها التصاعدي أن يصل العدد إلى 100.000 مهاجر عام 2022، بسبب وجود أكثرية ساحقة من اللبنانيين تسعى إلى السفر والهجرة تخلصاً من بؤس الأوضاع المعيشية في لبنان وبحثاً عن فرصة عمل وحياة أفضل من تلك التي يعيشونها في وطنهم تتوافر فيها كل حاجاتهم الأساسية. ووفقاً لشمس الدين، فإنّ مغادرة أكثر من 200 ألف مواطن لبنان منذ عام 2018، هو رقم خطير جداً، لا سيما أنّ 70 في المئة منهم من الفئات الشابة. ويبقى لهذه الهجرة مردود إيجابي يتمثل في التحويلات المالية التي يُرسلها المهاجرون في الخارج إلى ذويهم في لبنان، إذ تُشير الأرقام إلى وجود أكثر من 220 ألف أسرة لبنانية أي ما يعادل نحو مليون لبناني يستفيدون من هذه التحويلات التي تمكنهم من الصمود في ظل الظروف الاقتصادية والمالية الصعبة، وتجعل من وضعهم الاقتصادي والحياتي مقبولاً نسبياً.

هجرة إجبارية وقسرية

وحسب مرجع متخصص في علم النفس لموقع “لبنان الكبير”، فإنّ أسباب الهجرة متوافرة في لبنان عبر التاريخ وتتنوع بين سياسية واقتصادية واجتماعية، مشيراً إلى أنّ الهجرة التي تحصل اليوم ليست لأسباب اجتماعية فقط أو من أجل الحصول على موقع مرموق ووظيفة مُثلى، ولا لأسباب سياسية بحتة بل هي بأكثرها أصبحت لأسباب نفسية، بعد أن فقد اليوم المواطن اللبناني الأمن النفسي والكثير من مقومات العيش التي كان يملكها. وبالتالي، فإنّ هجرته ليست هجرة اختيارية أو طوعية، إنما هجرة إجبارية أو قسرية من دون وجود أي خطط مسبقة، لكنها في الوقت عينه قد تكون هجرة دون عودة، لتكون بذلك أولى نتائج الهجرة هي نتائج سيكولوجية. وعلى الرغم من أنّ الهجرة غالباً ما كانت ترتبط بتحسين المستوى الاقتصادي والاجتماعي وتمنح المهاجر العديد من الفرص، إلا أنها أصبحت اليوم علامة انكسار للمواطن اللبناني، بخاصة أنها لم تعد تمنحه الامتيازات التي كان يحصل عليها في الخارج، وأصبح هناك نوع من التمييز بينه وبين الجنسيات الأخرى لناحية الرواتب والأجور وانخفاض قيمتها، حتى أنه يتعرّض في الكثير من الأحيان لمعاملة تُشعره بالدونية وعدم الاستقرار، وهي إحدى أهم الآثار السلبية التي تخلق لديه حالة من الإحباط. هذا ويتأثر المجتمع اللبناني ديموغرافياً بشكل مباشر جراء هذه الهجرة، لأن عدد اللاجئين فيه قد ينافس عدد المقيمين. كما أنّ هجرة الشباب والأدمغة وحتى المراهقين ستشكل فجوة عمرية عميقة في هذا المجتمع الذي يعاني نقصاً في الخدمات الأساسية والحيوية، وستزيد من حالات التفكك الأسري بخاصة بين الأهل والأبناء. أما الخطورة الكبرى فتكمن في الشعور بأن لبنان كوطن لم يعد موجوداً وهذا ما يحرم مواطنيه من الشعور بالأمان النفسي وفقدان الهوية، ليطغى عليه الشعور بالاغتراب النفسي.

شارك المقال