زمن اشتداد اليأس: مليون طفل في خطر

هدى علاء الدين

تقول “إليانور روزفلت”، رئيسة لجنة صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، في خطابها عام 1958 أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في الذكرى العاشرة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان: “في النهاية، أين تبدأ حقوق الإنسان الشاملة؟ في الأماكن الصغيرة، قرب المنزل – قريبة جداً وصغيرة جداً بحيث لا يمكن رؤيتها على أي خريطة للعالم. ومع ذلك هي عالم الفرد؛ الحيّ الذي يعيش فيه؛ المدرسة أو الجامعة التي يرتادها؛ المصنع أو المزرعة أو المكتب حيث يعمل. هذه هي الأماكن التي يعيش فيها كلّ رجل وامرأة وطفل يسعى إلى تحقيق العدالة المتكافئة وتكافؤ الفرص والمساواة في الكرامة من دون تمييز. وما لم يكن لتلك الحقوق معنى هناك، فلن يكون لها أيّ معنى يُذكر في أيّ مكان. ومن دون اتخاذ إجراءات متضافرة من جانب المواطنين لدعمها لانها قريبة من المنزل، فسوف نبحث عبثاً عن التقدم في العالم الأكبر.”

أطفال يكبرون في كنف الأزمات

في لبنان، أدت الأزمات المتمادية المدمرة التي أصابته إلى إرتفاع عدد الأطفال الذين يعانون من سوء المعاملة والعنف والإستغلال… وخلال العامين الماضيين، فقدت العملة المحلية أكثر من 90 في المئة من قيمتها، مما تسبب بتضخم هائل وبطالة كبيرة. وقد دفعت الأزمة أكثر من 80 في المئة من عدد السكان إلى السقوط في براثن الفقر المتعدّد الأبعاد. إلى ذلك، تعاني البلاد من عدم الاستقرار السياسي وتفشي جائحة كوفيد-19، وما زاد الطين بلة حدوث انفجار مرفأ بيروت في آب 2020، بحيث أدّى كل ذلك إلى سقوط سكان لبنان، من كل الفئات، تحت نير ضغوط غير عادية، مع إنعدام وجود أي مؤشرات تُبشر بفترة راحة أو استقرار”.

بهذه الأسطر الوجيزة، وصفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف”، سقوط سكان لبنان في براثن الأزمات المتعددة الاوجه، مشيرة إلى أن مليون طفل على الأقل معرضون لخطر العنف مع اشتداد الأزمة في لبنان، وذلك في تقرير حمل عنوان “بدايات مظاهر العنف – أطفال يكبرون في كنف أزمات لبنان”، نشرته على موقعها بمناسبة زيارة الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة المعنية بالعنف ضد الأطفال لبنان نجلا معلا مجيد، التي أشارت بعد لقائها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي إلى ضرورة تعجيل وتفعيل السياسات الوطنية للتغطية الاجتماعية وحماية الأطفال من كل أشكال العنف، مؤكدة أن الأمم المتحدة هي داعمة للدولة اللبنانية في مجال وقاية الأطفال من العنف والتمييز والفقر.

اشتداد الضغوط وتضاعف الفقر

التقرير الذي لفت بوضوح إلى أن الانهيار المالي والسياسي تزامن مع انهيار اجتماعي عميق وارتفاع مخاطر الحماية، رأى أن الضغوط المتوالية غير المسبوقة تدفع أركان المجتمع التي توفر الحماية للأطفال إلى التفكك في ظل تراجع مقومات الوصول إلى الاساسيات التي يحتاج إليها هؤلاء للبقاء على قيد الحياة، ليتضاعف بذلك الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان من 42 في المئة عام 2019 إلى 82 في المئة عام 2021. ومع تزايد التوتر في المنزل، وغياب روتين النظام المدرسي خلال عمليات الإغلاق جراء جائحة كوفيد-19، ونتيجة تدهور الخدمات الاجتماعية، فقد شعر 66 في المئة من الأسَر التي شاركت في الاستطلاع الذي أجرته المنظمة الشهر الفائت، بتراجع رفاهية أطفالهم وانحدارها نحو الأسوأ مقارنة بالعام الماضي، مع ازدياد انفعالهم المتكرر وحاجتهم إلى الصراخ على أطفالهم وتدنّي القدرة على التسامح والتساهل معهم، بحيث أنّ طفلاً من بين كل طفلين معرض لخطر العنف الجسدي أو النفسي أو الجنسي. هذا فضلاً عن تخلي بعض الأسر التي تعاني من العوز عن أطفالها الرضع في الشوارع، تزامناً مع زيادة خطر اختطاف الأطفال مقابل فدية مالية.

وكأنها “طنجرة ضغط” قابلة للانفجار في أي لحظة، هكذا تحوّلت البيئة الاجتماعية في لبنان، تقول “اليونيسيف”. فالمشاكل إلى تزايد والأزمات إلى اتساع والصحة النفسية لدى الشباب إلى تراجع، وهذا ما يؤدي غالباً إلى اعتماد سلوكيات محفوفة بالمخاطر وأعمال عنفية وتعاطي المخدرات. كما أن تفاقم الأزمات دفع في اتجاه تزايد الأطفال الذين اضطروا إلى التعامل مع نظام العدالة الجنائية، وبعض هؤلاء امتثل أمامها اثر المشاركة في الاحتجاجات على الوضع السياسي أو في أعمال شغب، في حين فعل آخرون ذلك عمداً لكونهم ضحايا عنف أو شهدوا على أعمال عنف جرت في المنزل.

وختمت المنظمة تقريرها، بالتأكيد أن سلامة الأطفال ورفاهيتهم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكل دعامات وركائز المجتمع الذي يفترض أن يعمل في شكل ملائم، وهذا يتطلب محيطاً آمناً وطعاماً ملائماً، وسكناً مناسباً، ورعاية صحية، وتعليماً منتظماً، وأسراً قوية قادرة وخدمات مواتية ومؤسسات اجتماعية فعالة. كذلك، تتطلب حماية الأطفال تفعيل مختلف ركائز المجتمع من خلال الحد من الفقر الذي يُرهق كاهل الكثير من الأسر اللبنانية وأسر اللاجئين، ومراجعة القوانين والسياسات التي من شأنها حماية الأطفال، وتعزيز إمكان الوصول إلى كل من الخدمات الاجتماعية وحماية الطفل، والتعلم والرعاية الصحية والعدالة، وتحفيز التحولات الثقافية الطويلة الأمد في التوجهات المجتمعية. كما أن هناك حاجة ماسة إلى استجابة وطنية متينة ومتماسكة من أجل مساعدة الأطفال في لبنان على النمو آمنين بعيداً عن أي أذى، وإلى رؤية إجراءات سريعة من الحكومة تمنح من خلالها الأولوية لحماية الأطفال ومنها وجوب أن تضمن وزارة التربية والتعليم العالي توافر بيئة مدرسية آمنة لجميع الأطفال، وأن تتأكد وزارة الصحة العامة من تحلّي العاملين الصحيين بالمهارات والموارد الكافية للتعامل مع حالات الحماية، وأن تعمل وزارة الشؤون الاجتماعية على دعم الأسر لخلق بيئة رعاية في المنزل. 

الجريمة الأكبر

وانطلاقاً من تعريف مكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان (UNHCR)، الذي ينص على أنها “مبادئ أخلاقية فطرية لجميع البشر بغضّ النظر عن جنسيتهم أو موقعهم أو جنسهم أو أصولهم العرقية أو دينهم أو لغتهم أو أيّ وضع آخر، فقد أكّد مرجع متخصص في مجال حقوق الإنسان لموقع “لبنان الكبير”، أن الحقوق والحريّات الثلاثون المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتي تشمل الحق في اللجوء، والحق في عدم التعرّض للتعذيب، والحق في حرية التعبير، والحق في التعليم، والحقوق المدنية والسياسية كالحق في الحياة والحرية وحرية التعبير والخصوصية، والحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية كالحق في الضمان الاجتماعي والصحة والتعليم، تتعرّض إلى أخطر الانتهاكات بسبب انهيار المجتمع اللبناني وحرمان أفراده من أبسط حقوقهم ممّا يهدّد حياتهم وأمنهم وصحتهم ووجودهم، لذا لا بدّ من تقديم الدعم والمساندة لهم – وخاصة لدى الفئة الأكثر استهدافاً والمتمثلة في الأطفال – للحفاظ على هذه الشريحة الأساسية، التي يُعوّل عليها لبناء لبنان المستقبل، والتي يعدّ التفريط في حقوقها بالصحة والتعليم واللعب والسلام والكرامة، الجريمة الأكبر في حق المجتمع اللبناني.

شارك المقال