بيوت الله في بيروت، الجامع العمري شاهد على التحولات الزمنية (2)

زياد سامي عيتاني

في وسط بيروت القديمة، تلك المدنية التي كانت مسيّجة بسورها، يقع “الجامع العمري الكبير”، الذي هو أقدم مساجدها وأكبرها على الاطلاق (قبل تشييد جامع محمد الأمين)، إضافة إلى أنه أقدم الأبنية الأثرية فيها، التي لا تزال قائمة على حالها حتى اليوم، فضلاً عن أنه كان يعتبر الجامع المركزي في باطن بيروت، حيث كانت تتفرع عنه غالبية أسواق المدينة، وتحوطه المراكز التجارية والمؤسسات الحكومية.

فـ”الجامع العمري الكبير” يقع في وسط مدينة بيروت، وتحده من الجهات الأربع الشوارع التالية: من الجهة الشمالية شارع “ويغان” الذي كان يعرف قبلاً بـ “سوق الفشخة”، ومن الجهة الشرقية شارع حسين الأحدب، ومن الجهة الجنوبية شارع جورج عافوري، ومن الجهة الغربية شارع “المعرض” حيث مدخله الرئيس.

ولهذا الجامع العمري مكانة مميزة في وجدان البيروتيين، فإضافة إلى كونه أكبر جوامع المدينة وأهمها، كان يحتفل فيه بالأعياد والمواسم، وتقام فيه الصلوات والموالد ومجالس الذكر والتدريس والتفسير والوعظ والإرشاد من كبار العلماء والفقهاء والمدرّسين من البيارتة وممن زار بيروت.

وتعرض “المسجد العمري الكبير” للعديد من التقلبات والتحولات على مر العهود والأزمنة. فلم يتفق المؤرخون على تحديد هوية الأساس القديم الذي ينهض عليه البناء الحالي للجامع، وبالتالي لم يستطيعوا تحديد الزمن والتاريخ الذي يرجع إليه هذا الأساس.

ولكن ما لا شك فيه، هو أن البناء في حالته الراهنة يحتوي على العديد من الأعمدة التي فوقها تيجان، إستخرجت من الأنقاض التي كانت مردومة تحته، والتي يرجح علماء الآثار أنها عائدة إلى هيكل روماني، بناه الامبراطور ماركوس يوليوس، خصوصاً وأن المنطقة المحاطة بالمسجد تحتوي على العديد من الآثار الرومانية.

كذلك، فإن بعض النصوص التاريخية تشير الى أنه من آثار الفتح الإسلامي في أوائل القرن الأول للهجرة، عندما إستولى المسلمون على سواحل بلاد الشام سنة 16 هجرية، وإستقروا في بيروت آنذاك، فبنوا لأنفسهم مسجداً على الأرض التي يقوم عليها “المسجد العمري الكبير”.

كنيسة قبل أن يكون جامعاً:

عندما إحتل البيزنطيون بيروت بعد الرومان، جعلوا الهيكل الروماني مؤسسة حكومية من جملة المنشآت العامة في زمانهم. فلما تعرضت بيروت للزلزال، تقوّض بناء الهيكل وتحول إلى أشلاء من الأنقاض الغاصة في أعماق الأرض.

ولدى غزو الافرنج لبلادنا عام 1112 ميلادي، إختاروا البقعة التي كانت فيها الأطلال الرومانية وبنوا كنيسة باسم “مار يوحنا”، وذلك في الموقع نفسه الذي كان يشغله سابقاً المجلس العسكري الروماني، حيث يقع في الوقت الحاضر “المسجد العمري الكبير”.

صلاح الدين يحوّل الكنيسة إلى جامع:

وبعد إستيلاء صلاح الدين على بيروت عام 1187 ميلادي، حوّل مبنى الكنيسة إلى مسجد لمدة عشرة أعوام، إلى أن إسترجع الصليبييون بيروت عام 1197 ميلادي فأعادوا المبنى كنيسة، وقاموا بتدعيم دفاعاتها.

ولما كانت سنة 690 هجرية، أي عام 1291 ميلادي، عادت بيروت في أيدي المسلمين من جديد، بحيث إستخلصها الملك الأشرف خليل إبن السلطان قلاوون، وإستقرت جيوش المماليك في بيروت، وأعيد تحويل الكنيسة إلى مسجد.

تسميات متعددة:

ولدى إعادة تحويله إلى جامع، أطلق عليه “جامع فتوح الاسلام”، وهو ما يستدل عليه من اللوحة الرخامية المثبتة على الحائط الغربي أمام المدخل الرئيس للجامع.

بعد ذلك أصبح المسجد يطلق عليه إسم “الجامع الكبير”. وهذا ما يمكن معرفته مما أورده عبد الغني النابلسي في كتابه “التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية” عندما زار بيروت عام 1700 بقوله: “الجامع الكبير” وهو يشتمل على إثنتي عشرة عضاضة، وهي عظيمة العمارة، يقال إنه كان في الأصل كنيسة، وفي جانبه بركة ماء طويلة كبيرة، وله بابان عظيمان، ومقابل الباب زاوية إبن الأحمر.

يمكن القول ان تسمية الجامع بـ “الكبير” كانت تمييزاً له عن “الجامع العمري الصغير” أي “جامع الدباغة”. وفيما بعد وتحديداً في أوائل العهد العثماني صار يعرف بـ “جامع النبي يحيى” أو “جامع سيدنا يحيى”، وذلك لوجود مقام في داخله بإسم النبي يحيى، الذي هو عبارة عن قفص حديدي على أعلاه كتبت بعض الآيات القرآنية وكتابة تشير إلى أن هذا القفص هو هدية من السلطان عبد الحميد الثاني، يرجح أن في مكانه نفسه دفن النبي يحيى.

ومنذ أواسط القرن التاسع عشر أصبح يسمى بـ”المسجد العمري الكبير”، تكريماً للخليفة عمر بن الخطاب.

الأثر الشريف:

إضافة إلى الأهمية التاريخية والأثرية لـ”المسجد العمري الكبير”، فإن ما كان يزيد من أهميته ومكانته أنه كان يحتوي على الأثر النبوي الشريف.

فإكراماً لأهالي بيروت ودورهم في الابتعاد عن الفتنة الطائفية وقيامهم بمساعدة الغير، وبناء لمسعى فؤاد باشا ناظر الخارجية العثمانية، ثم الصدر الأعظم فيما بعد، منحهم السلطان عبد المجيد الأول “شعرات نبوية شريفة”.

وكانت الشعرات الشريفة موضوعة في علبة من البلور يبلغ عرضها حوالي أربعة سنتيمترات وملبسة بالذهب وقد ثبتت فيها الشعرات بالشمع، وطول إحداها حوالي سنتيمترين والشعرتين الباقيتين نحو سنتيمتر واحد. وكانت علبة البلور محفوظة في علبة أكبر (سكمجاية) مرصعة بالأحجار الكريمة وملفوفة بأقمشة من ستار الكعبة المشرفة وموضوعة في صندوق أخضر من صنع محلي.

إلا أن ما يؤسف له أنه خلال الحرب اللبنانية سنة 1975 وما يليها تعرض الجامع للسرقة فخلع الصندوق وإختفت البلورة التي كانت بداخلها (الشعرات الشريفة).

بناء المسجد:

على الرغم من كل التقلبات والتحولات التي شهدها، فإن بناء المسجد الحالي لا يرقى إلى أبعد من الزمن الذي أنشأه فيه الصليبيون، ليكون كنيسة لهم على أنقاض معبد روماني. وهو على شكل مستطيل، ينتهي مبناه من الجهة الشرقية بثلاث حنايا مستديرة. وفي الجهة الغربية يوجد المدخل الرئيس، الذي هو عبارة عن صالة مربعة مغطاة بقبو متقاطع، محمول على أربعة عقود مرتكزة على دعائم من الحجر ومحلاة بأنصاف أعمدة، على أعلاها كتابة مملوكية، إضافة إلى لوحة رخامية بها خمسة أسطر تنتهي من الأعلى بشكل مثلث، أرخت سنة 1067 هجرية، لتشير إلى إسم عبد الله بن الشيخ إبراهيم الخطيب الذي أنشأ غرفاً عدة في المسجد.

ومسقط الجامع يتكون من ثلاثة أروقة، الأوسط مغطى بقبو دائري محمول على عقود مقنطرة، مرتكزة على دعائم حجرية، زخرفت تيجانها بأوراق ذات زوايا حادة. والرواقان الجانبيان ينفصلان عن الرواق الأوسط بواسطة أربع دعائم مغطاة بأربعة قباب متقاطعة محمولة على الدعائم والأكتاف التي زينت بأنصاف أعمدة.

واستحدثت على الحائط الشمالي من المسجد لجهة صحنه الخارجي عام 1183 للهجرة أيام أحمد باشا الجزار ثلاثة أبواب: الأول معقود بعقد شبه دائري، مصنوع من الرخام الأبيض والحجر الرملي بأشكال هندسية. أما البابان الآخران فلهما عتب مستقيم وموضعان في قوصرة معقودة.

وهذه الأبواب الثلاثة إستحدثت في سياق بعض الزيادات التي ألحقت بالمسجد، والتي من بينها أيضاً بناء بركة ماء للوضوء تعلوها قبة تحتوي على رخامة كتب عليها خمسة أبيات شعرية نظمها مفتي بيروت عبد اللطيف فتح الله، إضافة إلى سدة خشبية بجوار الحائط الشمالي، زينت بزخارف هندسية ونباتية باستعمال الألوان الأحمر والأخضر والذهبي.

وألحق أيضاً بالجهة الشمالية للمسجد من الخارج رواق ينفتح على الصحن بواسطة عقود مدببة محمولة على دعائم حجرية، غطيت بقباب متقاطعة، كما غطي الفراغ في وسط الرواق بقبة محمولة على طمبور نظمت به تسع نوافذ معقودة.

وللمسجد محرابان: الأول على الحائط القبلي – الجنوبي، وهو بشكل قوصرة مكسية بالرخام الأبيض والحجر الرملي، يكتنفه عمودان رخاميان. وعلى يمين المحراب كتابة من ثلاثة أسطر نحتت على الرخام داخل دائرة مدهونة باللون الأسود.

وبالنسبة الى منبر المسجد الأصلي، يرجح أنه كان معمولاً من خشب على نمط المنابر المملوكية. أما المنبر الحالي الذي أنشأه على نفقته إبراهيم الغندور المصري عام 1956، فهو مصنوع من الرخام الأبيض والأخضر، زخرف جانب منه من الخارج بزخارف نباتية عثمانية، ويصعد إليه إلى مكان الخطيب بواسطة احدى عشرة درجة، وغطي مقعد الخطيب بقبة صغيرة.

وقد بنى سنة 914 هجرية شرف الدين موسى بن زين الدين مسلم في الركن الجنوبي الغربي مئذنة للمسجد ذات مسقط مربع، تحمل في أعلاها شرفة مربعة، يصعد إليها بسلم دائري داخل المئذنة يتم الوصول إليه من باب على الجهة الغربية للمسجد.

وعن يمين المئذنة يوجد مدخل صغير منخفض يؤدي إلى غرفة مربعة مسقوفة بقبة، معروفة بإسم “حجرة الأثر الشريف”، لأنه كان يحتفظ في داخلها بصندوق يحتوي ثلاث شعرات منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

و”المسجد العمري الكبير”، على الرغم من أهميته التاريخية فإن الحرب التي إندلعت في بيروت لم تراعِ حرمته ولا مكانته، إنما ألحقت به أضراراً فادحة وحطمت الكثير من أجزائه وشوهت بعض نقوشه التراثية، إلا أنه بعد توقف الحرب أعيد ترميمه، وقد تم إفتتاحه مجدداً في 4 حزيران 2004، بحضور الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بعدما إستحدث مصلى للنساء.

وتم نقل محراب العشرة المبشرين بالجنة من الحائط الشمالي للجامع ووضع في الحائط الجنوبي، حيث القبلة في مصلى النساء.

وقبالة المنبر إرتفع درج من خشب الجوز يحيط به سور من الخشب أيضاً يؤدي إلى سدة جديدة.

شارك المقال