“الشعب العنيد” أسير “متلازمة ستوكهولم”؟

عبدالرحمن قنديل

“لتبدأ الحفلة!”… بهذه الكلمات إقتحم يان إريك أولسن مسلّحاً برشاش مصرفاً في وسط ستوكهولم يوم 23 آب 1973 مطلقاً عملية إحتجاز رهائن على مدى ستة أيام ولّدت مفهوماً بات معروفاً في كل أنحاء العالم بـ”متلازمة ستوكهولم”، وهي حالة نفسية تُصيب الإنسان عندما يتعاطف ويتعاون مع عدوه أو من أساء إليه بشكل من الأشكال، وقد تصل الى مستوى ظهور بعض علامات الولاء له حتى لدرجة الدفاع عنه والتضامن معه، وتشير هذه التسمية إلى حالة يطوّر فيها الأشخاص المحتجزون رابطاً عاطفياً مع آسريهم.

خلال هذه العمليّة، أظهر بعض المُحتجَزين مشاعر غير منطقيّة حيال مختطِفيهم وسلوكاً غريباً يشبه الحبّ والولاء لهم، بحيث كان يتولّد لدى الضحيّة حالة نفسيّة تجعلها تتعاطف مع الجاني وصولاً إلى حدّ الدفاع عنه والإشتراك معه في الجرائم. ورفض الرهائن بعدما حررتهم الشرطة من أيدي الخاطفين، الادلاء بشهادتهم ضدهم في المحكمة والأغرب أنهم شرعوا في جمع الأموال للدفاع عنهم.

وعلى صعيد المجتمع، يمكن ملاحظة هذا التأثير في الأنظمة القمعية، عندما لا تملك السلطة شرعيتها من غالبية الشعب، فتصبح وسيلة الحكم القمعية ضاغطة على أفراد المجتمع، ولمدة طويلة يطوّر خلالها الأفراد علاقة خوف من النظام فيصبح المجتمع ضحيته. ويدرك النظام هذه الحالة مع الوقت، حتى يتقن لعبة ابتزاز المجتمع، فيعتاد الشعب القمع والذل لدرجة تجعله يخشى التغيير حتى وإن كان الى الأفضل، ويظل يدافع عن النظام القمعي ويذكر محاسنه القليلة جداً من دون الالتفات إلى مظاهر القمع والفساد الكثيرة.

على الصعيد اللبناني، ثار “الشعب العنيد” على منظومة فاسدة كما بات معروفاً، وهي مجموعة حكام فاسدين حكموا البلد وتشاركوا في سرقة خيراته لعقود وصولاً الى تسببهم بالانهيار الإقتصادي الذي توّجه العهد البائد بكل موبقاته.

حصلت هذه الانتفاضة أو الثورة عام 2019 بعد تراكمات شهدها لبنان لسنوات على الصعيد السياسي والاقتصادي إلى حد وصولها الى الصعيد الاجتماعي، وأدت إلى إستقالة حكومة الرئيس سعد الحريري أو كما وصفت بـ “حكومة العهد” بعدما حاز الصهر المدلل الحصاد الأكبر من غضب المنتفضين الذين كان عنوانهم الأساس إسقاط العهد برمته.

تتالت تداعيات هذه الانتفاضة التي ترافقت مع بداية الأزمة وتوّجت بسرقة ودائع اللبنانيين من البنوك وصولاً إلى إنفجار المرفأ وبلوغ الدولار أرقاماً قياسية مفاجئة وما تبعها من أزمات إقتصادية وإجتماعية لا تزال نتائجها مستمرة حتى أيامنا هذه. خفت وهج التحركات الشعبية خصوصاً بعد إنفجار مرفأ بيروت وإستقالة حكومة حسان دياب التي أعطاها المنتفضون فرصة فاتحين الطريق أمامها حتى وصل الأمر بالبعض الى تسميتها “حكومة الثورة”.

كثيرون ظنوا أن اللبناني ذاكرته ثأريّة، إن لم يحاسبهم من خلال التحركات الشعبية وإنتفاضة تشرين التي لم تكمل طريقها كما يجب، فإن الإنتخابات النيابية عام 2022 لناظرها قريب، ولكن ما تبين صادم ونتيجة معاكسة تماماً إذ عادت المنظومة كما هي مع “رشّة” تغييريين لينقسموا على بعضهم البعض مشكلين أداة مخيّبة لآمال من راهن عليهم وعلى فاعلية دورهم “التغييري” في المجلس النيابي.

مع التجديد للقوى السياسية وبقائها متحكمة برقاب اللبنانيين، لا يزال الشعب يمارس حياته بصورة طبيعية وكأن لا أزمة من الأساس خصوصاً مع تحكم الفراغ في الدولة ومؤسساتها والمشكلات الأمنية المتنقلة التي شهدها لبنان في الأيام الأخيرة وكأن شيئاً لم يكن وسط إستغراب وعلامات إستفهام باتت تحيط بهذا السكوت وأسبابه.

بعد خمسين عاماً على ولادة مفهومها، هل أصبح اللبناني أسيراً لـ “متلازمة ستوكهولم”؟

إعتبرت الإستشارية النفسية الدكتورة هيلكا علاء الدين في حديثها لـ “لبنان الكبير” أن “هناك في مجتمعنا حالة من الصدمة باعتبار أن لا أحد من الشعب اللبناني كان يتوقع أن تنقلب حياته رأساً على عقب نتيجة مسار الإنهيار وكأن المياه كانت تجري من تحته إلى أن إستفاق بين ليلة وضحاها مفتقداً جنى عمره ومستقبله نتيجة الإنهيار الإقتصادي وتدهور الأسعار بصورة كارثية بالإضافة إلى البطالة والفقر وتدهور التعليم الرسمي”.

وأكدت علاء الدين أنّ الإنهيار الإقتصادي والأزمات المالية التي تبعتها أدّت إلى حدوث إضطرابات في الصحة النفسية للأفراد، وهناك علاقة تربط بين الحرمان والبطالة والأزمات المالية وبين القلق والتوتر والغضب والعدوانية وحتى العزلة الإجتماعية.

ورجحت “أن تكون هذه العوامل تابعة لمتلازمة ستوكهولم بمستوى معين، وقد تكون موجودة لدى الشعب اللبناني عموماً أو لدى جزء منه مع الأخذ في الاعتبار الخصائص النفسية والشخصية والطائفية والديموغرافية للشعب اللبناني، وحتى الاعلامية من خلال مقدمات نشرات الأخبار وما تتضمنها من شحن وتحريض وكأن لا شيء مشترك بات يجمع اللبنانيين بتاتاً، وكأننا لسنا تحت سقف بلد واحد”.

أضافت علاء الدين: “بالاستناد إلى هذه الخصائص وعلى الرغم من كل المحطات التي شهدتها الأزمة، يعود اللبناني إلى طائفته وحزبه متسلحاً بمبدأ كلن يعني كلن ما عدا زعيم طائفتي، وهذا ما أفرزته نتائج الإنتخابات النيابية الأخيرة باعتبار أن الشعب اللبناني عندما باتت الفرصة في يده لتغيير الطبقة السياسية الحاكمة لم يغيّر بل أعادها إلى الحكم بمن فيهم بعض النواب المتهمين بجريمة إنفجار المرفأ، وهنا تطرح علامات إستفهام هل هذا نتيجة إنكار أو تكاذب أو إنفصال عن الواقع لمجرد أن للانتماء أولوية؟”.

وأشارت إلى أن نزعة التطرف والانغلاق على الآخر هي الغالبة نتيجة الأفكار والمعتقدات على الصعيد المعرفي الخاطئة والمغروسة في نفوس الشعب اللبناني ما يسهل عملية التعاطف والتماهي مع المعتدي أي “متلازمة ستوكهولم”، باعتبار أن المعتدي هو “إبن الطائفة أو زعيمها” ولكن إلى أي درجة يمكن أن نحكم على أنها المتلازمة نفسها؟ هذا يحتاج إلى دراسات وأبحاث أكثر.

شارك المقال