ما بين قرداحي والقرداحة خسرنا الخليج!

جورج حايك
جورج حايك

ليست عفوية ولا ارتجالية مواقف وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي وقبله وزير الخارجية شربل وهبة وغيرهما من الشخصيات اللبنانية السياسية والفنية والإعلامية التي تدور في فلك محور المقاومة والممانعة الذي تقوده ايران.

هؤلاء يعتمدون أدبيات هذا المحور المعادية للخليج العربي، على رغم أن بعضهم يعيشون على “فتات” خيرات الدول العربية التي عُرِفت بعلاقاتها الاقتصادية المميزة مع لبنان طوال عهود وأعوام، بحيث يمكن وصفها بالعلاقات التاريخية منذ الدستور الأول الذي كان فيه لبنان “ذو وجه عربي”، حتى أقرّ في اتفاق الطائف عام 1990 نصّ يؤكّد أن لبنان عربيّ الهويّة والانتماء، وللمفارقة أنّ لبنان منذ عام 2000 اختطفه فريق إلى الحضن الإيراني، وعمل بدأبٍ على تكريسه دولة مشلولة مستتبعة للوليّ الفقيه وما يسمّى محور المقاومة والممانعة، وهذا واقع لا يظنّـن أحد أنّ لبنان قادرٌ على التفلّت منه إلا متى وُضع حدّ لسلاح “حزب الله” بنزعه وتنازل عن مشروعه.

ليس مستغرباً أن هذا المحور تمكّن من غسل عقول عدد كبير من النخبويين المثقفين والإعلاميين والسياسيين، وحتى ملأ جيوبهم بـ”الدولار” الأميركي “المتصهين” خدمة لمشروع ايران، وقد شمل هذا الأمر احزاباً لبنانية تنتمي إلى كل الطوائف، وبينها أحزاب مسيحيّة مثل “التيار الوطني الحر” و”المردة”. ولا شك في أن الحزبين المذكورين يسيران عكس المبادئ والثوابت الوطنية السياسية التاريخية للكنيسة المسيحية في لبنان، فهي ذات نزعة ايمانية، استقلالية، نهضوية، فكرية منفتحة على الغرب والشرق، تعتنق الحرية، أي حرية أبناء الله، ولا تؤمن بمشاريع مذهبية توسعية لأنظمة دينيّة وتوتاليريّة وديكتاتورية لا تحترم حقوق الانسان والنظام العالمي.

من هنا تستغرب، مرجعيات سياسية واعلامية خليجية تموضع بعض الأحزاب المسيحية إلى جانب “حزب الله” وايران. ربما تجد هذه الأحزاب مصالحها في هذا التموضع مما يجيب عن اسئلة كثيرة، إلا أنه من المفترض أن يكون مشروعها مصلحة لبنان وشعبه وليس مصالحها الخاصة وأهداف زعمائها السلطوية.

هذه الإشكالية تفسّر مواقف قرداحي ووهبة المعادية للخليج عموماً، والسعودية خصوصاً، وتعكس جوّاً عاماً لفئة من الشعب اللبناني مقتنعة بخيار المقاومة والممانعة، وما تقوم به ميليشيات ايران في المنطقة مثل “حزب الله” و”الحوثيين” والحشد الشعبي العراقي والنظام السوري وغيرها.

واللافت أن محور المقاومة والممانعة الذي يؤمن به قرداحي يُشير إلى ممانعة ومقاومة إسرائيل ومواجهة ما تسميه تلك الأنظمة بـ “المخططات الأميركية في المنطقة”.

عملياً، محور الممانعة هو تسمية زائفة للتغطية على المشروع الحقيقي المُتمثل في أطماع إيران التوسعية في المنطقة التي تهدف إلى تصدير الثورة الخمينية، وإقامة دولة شيعية تحت حكم الولي الفقيه تضم سوريا ولبنان والعراق واليمن. لهذا ليس مصادفة أن رؤوس المحور تنتمي إلى المذهب الشيعي (تنتمي عائلة الأسد الحاكمة لسوريا إلى الطائفة العلوية وهي إحدى طوائف الشيعة).

فيما لم ينسَ أحد تسجيلاً قديماً للأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله، يوضح فيه أن الخطة النهائية هي أن يكون لبنان جزءاً من “الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه في الحق الولي الفقيه الإمام الخميني” على حد تعبيره.

الخطة إذًا هي إنشاء “دولة إسلامية”، على غرار الحلم الداعشي، لكن على المذهب الشيعي. وقد تم استغلال حجة المقاومة والممانعة لكسب تعاطف وتشجيع شعوب المنطقة وتقريبها من المحور كجزء من تلك الخطة الطويلة الأمد. وقد نجحت الخطة إلى حد بعيد، فلو رجعنا بالزمن إلى سوريا قبل نحو 15 عاماً أو ما شابه لوجدنا أن شعبية كل من إيران و”حزب الله” كانت عالية جداً في صفوف السوريين، بالطبع هذا الأمر تغير لاحقاً بعد انكشاف المخطط بشكل واضح منذ اندلاع الثورة في سوريا وارتكاب النظام السوري مدعوماً من روسيا وايران و”حزب الله” مجازر بحق الشعب السوري.

عملياً لم تحدث أية ممانعة حقيقية لاسرائيل، واكتفت إيران بتزويد “حزب الله” بالسلاح لإثارة بعض الشغب على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. أما النظام السوري والقوات الإيرانية على الأراضي السورية، فقد تعرّضا لعدد صار من الصعب إحصاؤه من الضربات الجوية الإسرائيلية من دون وجود أي رد، واكتفاء النظام السوري بإطلاق عبارته الشهيرة: “نحتفظ بحق الرد في الزمان والمكان المناسبين”، حيث ردد النظام هذه العبارة مئات المرّات حتى تحوّلت إلى نكتة يتداولها السوريون واللبنانيون. في الحقيقة لا يبدو أنه توجد لدى “محور الممانعة” أية مشكلة مع إسرائيل من حيث المبدأ، فالنظام السوري مثلًا دخل مرات عدة في مفاوضات سلام مع إسرائيل. كما اشترت إيران أسلحة من إسرائيل خلال حربها مع العراق.

حتماً يعرف جورج قرداحي هذه المعادلة، لكنه أراد لطموح شخصي أن يؤيد هذا المحور، وهذا ما ينطبق على أحزاب وشخصيات أخرى. لكن المشكلة أن هؤلاء يسيئون إلى علاقات لبنان الخارجية وخصوصاً العربية والخليجية، نظراً إلى تبنيهم خطاب “حزب الله” ضد العرب، مما يؤكد سقوط لبنان العميق في حفرة هذا المحور المدمّر الذي اساء إلى دول عربية عدة، نذكر منها: سوريا، العراق، اليمن ولبنان. وإذا نظرنا إلى أوضاع هذه الدول على صعيد الاقتصاد والاوضاع الأمنية والسياسية والاجتماعية، نكتشف أنها دول منكوبة، وتعاني من النفوذ الايراني الذي يسير بها إلى العصر الحجري، مما يسبب المعاناة لشعوبها.

في المقابل، بحّ صوت رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي وهو يوجّه رسائل طيّبة وايجابية إلى دول الخليج لمراضاتها والوقوف على خاطرها ومحاولة ترميم العلاقات معها. وهو يعرف أن مصلحة لبنان الاقتصادية في أمسّ الحاجة إلى اعادة الانفتاح العربي على وطن الأرز، فيأتي موقف لنصرالله أو قرداحي أو النائب جبران باسيل أو أي شخصية تابعة لهؤلاء بهدم كل ما بناه ميقاتي! في المحصّلة، ما فعله قرداحي ولو سبق استلام مهامه كوزير اعلام، إلا أنه قطع الأمل بعودة العلاقات مع السعودية، لأن القيادة السعودية تعرف ان “حزب الله” وايران يسيطران على لبنان الرسمي بدءاً برئاسة الجمهورية، مروراً بوزراء الحكومة وصولاً إلى الأكثرية في المجلس النيابي. وبالتالي ستبقى حكومة ميقاتي من دون دعم خليجي حتى نهاية العهد، نتيجة تراكمات الخطاب العدائي اللبناني حيال السعودية.

لكن ما يجب أن يعرفه اخواننا السعوديون والخليجيون ان الشعب اللبناني براء من هذه المنظومة السياسية التي لا تفعل سوى الاساءة لمصلحة لبنان ارضاء لايران، وثمة قوى سياسية حيّة وناشطة ترفض الاساءة للسعودية والخليج وأهمها تيار “المستقبل” و”القوات اللبنانية” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” و”الكتائب” وعشرات المجموعات المدنية والشخصيات المستقلة.

في وقت يتسابق بعض الأعضاء المشاركين في هذا المحور إلى خطب ود الخليج كالنظام السوري، يقوم بعض أزلامه المستتبعين له في لبنان الى الاساءة للخليج والحاق الضرر في لبنان، وكان من المستحسن لميقاتي وبعض الحريصين على مصالح لبنان الاقتصادية تجنّب اختيار وزراء من هذا النوع، يُعرفون بانحيازهم الكلي لمحور الممانعة.

ومن المتوقع أن يُصاب لبنان بأضرار كبيرة نتيجة هذه التصرفات وخصوصاً أن “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” و”المردة” ترفض اقالة قرداحي بل دافعت عن موقفه بشراسة وتبنته على نحو وقح، ولعل هؤلاء غاب عنهم حجم الخسائر الهائلة إذا قرر السعوديون مقاطعة لبنان اقتصادياً وهذا متوقّع وسيشمل بالأرقام: سيخسر لبنان السوق الخليجية التي تشكّل مليار دولار من اجمالي الصادرات اللبنانية التي تبلغ ٣،٤ مليارات، كما تشكّل مساهمات الدول الخليجية 45 في المئة من الاستثمارات الموعود بها لبنان في حال الاتفاق مع صندوق النقد الدولي!

ويعمل في الخليج أكثر من 380 ألف عامل، تستوعب السعودية وحدها أكثر من نصف هذه العمالة، مما سيعرّض هؤلاء إلى مصير مجهول. وتقدر قيمة تحويلات اللبنانيين العاملين في الخليج إلى لبنان بنحو أربعة مليارات دولار سنوياً، ويذكر أن 50% من العائلات اللبنانية تعتمد كلياً أو جزئياً على هذه التحويلات. وتمثل الاستثمارات الخليجية في لبنان نحو 85% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في البلاد. والجدير بالذكر ان عدداً كبيراً من السياح الخليجيين امتنع عن السفر إلى لبنان تلبية لدعوات حكوماتهم التي فرضت حظر سفر على رعاياها، بسبب الحال العدائية التي يظهرها بعض المسؤولين اللبنانيين لدول الخليج.

ولم ينس اللبنانيون ان لبنان خسر عام 2016، نحو أربعة مليارات دولار من المساعدات العسكرية السعودية التي تعد أكبر مساعدة عسكرية في تاريخ لبنان، بعد قرار السعودية “إعادة النظر بالعلاقات مع لبنان” في ضوء مواقف اتخذتها وزارة الخارجية اللبنانية المتمثلة بجبران باسيل في المحافل العربية والإسلامية، ورفضه الانضمام للإجماع العربي الرافض للتدخلات الإيرانية. هذا الأمر حرم الجيش اللبناني والقوى الأمنية والعسكرية من التزوّد بالسلاح بمليارات الدولارات بعدما حاولت السعودية بذل كل ما في وسعها للحيلولة دون وصول الأمور إلى ما وصلت إليه. وتتابعت اساءات لبنان المغلوب على أمره بسبب هيمنة “حزب الله” في حق السعودية، فقام بتصدير الكبتاغون اليها بكميات مليونية. ولم يكتف بذلك، بل قام بتسخير كل قدراته ومقدراته الأمنية والعسكرية والمالية والسياسية والإعلامية ضد السعودية ودول الخليج واليمن.

في الختام، ما يجب أن يعرفه قرداحي وكل من يشابهه في التفكير، بأن لبنان في كنف العرب ودول الخليج كان “عروس الشرق” في كل المجالات، لكن حين اقتيد إلى الكنف الإيراني أصبح دولة بلا كهرباء ولا مازوت ولا دواء ولا غذاء ولا مستقبل يحلم به شعبه.

شارك المقال