“عنوان” الكاظمي في المعادلة الإيرانيّة

علي نون
علي نون

كان الأمر يتصل بالتوقيت ليس إلا… وعندما توافرت اللحظة المناسبة حصلت محاولة تفجير مصطفى الكاظمي رئيس الحكومة العراقية، الذي يسيّر أعمال وظيفته بانتظار العودة إليها أو تعيين خلف له بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة.

جاء الى منصبه ايام الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب، وفي ذلك، أولاً وأساساً، ما يكفي للدلالة على انه لم يكن خيار طهران ولا أتباعها في بغداد بل هو كان ولا يزال بالنسبة الى هؤلاء، وبغض النظر عن ادائه السياسي، صورة هزيمة شاخصة امامهم كل يوم وسبقت بالتأكيد صورة هزيمتهم في الانتخابات الاخيرة. كانوا ينتظرون تلك اللحظة لتصحيح المسار او اعادته الى سوية المألوف في السنوات الماضية: سيرة تحديد من هو صاحب السلطة التنفيذية في بغداد مثلما هي الحال في بيروت لجهة تحديد من هو رئيس الجمهورية ثم من هو رئيس الحكومة ولاحقاً من هو رئيس مجلس النواب!؟

الكاظمي كان ولا يزال تجسيداً مريراً لخضوع صاحب القرار الإيراني أمام من يخشى منه أو يتجنب مواجهته مباشرة. وكان في ذلك يسير بالقرب من حائط البيت ويتجنب مطبات الطريق طالباً السلامة اولاً وأخيرًا. وفعل تقريباً كل شيء لتجنب اي دعسة ناقصة! بما في ذلك عدم الرد المباشر على قتل قاسم سليماني وابو مهدي المهندس على يد الاميركيين بأوامر معلنة من الرئيس السابق ترامب… الكاظمي كرئيس للحكومة كان أخفّ وطأة على طهران من اغتيال كبير صناع ومنفذي سياساتها التمددية في الخارج، بل اكبر رموزها المقاتلة في كل تاريخها الحديث بعد قيام الجمهورية الاسلامية. ومع ذلك آثرت الركون الى النفَس الطويل الذي تتقن فنونه، وعدم الذهاب الى ملاقاة التحدّي الذي طرحه عليها ترامب بوضوح تام ومن دون مواربة أو خفر أو تردد!

قبل هذا الاغتيال، كان الكاظمي عنوان انكسار المعادلة الايرانية في بغداد التي تشبه ايضا تلك التي لا تزال قائمة في لبنان. اي الإمساك بالقرار الشرعي من خلال وجوه سياسية تتحكم بقرارها الاخير، وان كانت تلك تملك شيئًا من الحيثية المحلية الدالّة على توسطها او وسطيتها. رئيس الوزراء الناجي من الاغتيال جواً كان ولا يزال يملك اكثر بكثير من المسموح امتلاكه بالنسبة الى ايران بل هو اظهر استقلالية اوسع مدى محلياً وخارجياً وذهب واجتهد في مسارين خطيرين: الاول هو السعي الجدي برعاية منظورة من المرجعية الدينية في النجف، الى إعادة إحياء سلطة الدولة واستعادة حقوقها الدستورية والشرعية، وأول ذلك حقها باحتكار السلاح وموجباته وأحكامه من ألفها إلى يائها. ثم الذهاب الى محاربة الفساد بهمّة غريبة! وهو الذي يعرف ان الامر رديف حتمي لدوام السيطرة الايرانية على الأتباع العراقيين من جهة وأحد أبواب تعويض شيء من خسائر العقوبات الخارجية من خلال المجال العراقي المفتوح. أي تماما (ومجددا) مثلما هي الحال بين لبنان راهناً ونظام الاسد المعاقب بصرامة في سوريا.

المسار الثاني والخطير أيضاً هو نجاح الكاظمي في إعادة الحضور العربي الى عاصمة الرشيد وفي اعادة وصل ما انقطع من علاقات مع الجوار الخليجي عموماً، والسعودي خصوصاً، وتمكنه، بإرادة مشتركة، من طمس جزء كبير من ارتكابات وممارسات واساءات نوري المالكي ازاء ذلك الجوار تنفيذًا لارتباطه بالاجندة الايرانية عقيدياً من جهة ورداً لفضلها عليه من جهة ثانية عندما فرضت تعيينه رئيساً للحكومة على الرغم من أرجحية وأحقية إياد علاوي بذلك تبعاً لنتائج الانتخابات التي جرت آنذاك، عام 2010… وطبعاً كان باراك أوباما السيئ الصيت والسمعة جالسًا في البيت الابيض ويضع المقدمات الضرورية للتقدم بإتجاه إيران في كل الاتجاهات واستناداً إلى جملة آراء واستنتاجات (وعقد كثيرة!) نجح في تغليفها بعنوان مخادع وحيد هو الرغبة في استيعاب مشروعها النووي!

ثم ان الكاظمي نجح الى حد بعيد في استثارة الحمية الوطنية العراقية بهدوء وعلى البارد! وتمكن من مخاطبة الوعي العراقي الاصيل بالهوية العربية واظهار ما في النفوس العامة من اعتزاز بها وبكل ابعادها في التاريخ والجغرافيا والانتماء باللسان والنسل وقرابة الرحم والدم… وتقديم تلك الحزمة مجتمعة على الانتماء المذهبي الذي بنت عليه ايران جلّ نفوذها وعمّرت فوقه ارتباطاتها باتباعها سياسياً وامنياً وعسكرياً ومالياً.

في استهدافه راهناً يُقال ايرانياً اشياء كثيرة… اولها تصفية الحساب المعلّق مع ترامب باعتبار ان الكاظمي احد التعبيرات العراقية عن سياسته الايرانية… وثانيها الادعاء بأن ذلك هو جزء من الردود المزلزلة والموعودة على اغتيال سليماني والمهندس في ضوء الاتهامات الخفرة التي وجهت الى البعض في بغداد ومنهم الكاظمي بالمشاركة او بالاستفادة من تغييب ذينك الشخصين! ثالثها الرد على الفشل في الانتخابات التشريعية وضمان عدم العودة الى تكليفه رئاسة الحكومة كي لا يصير الفشل الايراني مثلث الاضلاع: دينياً ومرجعياً في النجف. وشارعياً واشتراعياً في البرلمان مع فوز مقتضى الصدر بأكبر كتلة نيابية. وتنفيذياً من خلال ترؤسه (الكاظمي) الحكومة مجدداً.

وفي حسابات منفذي محاولة الاغتيال أن التوقيت الراهن هو الانسب إذ ان فوضى ما بعد الانتخابات وان كانت مضبوطة حتى الآن، تترافق مع تحريك ايران كل اوراقها الاقليمية دفعة واحدة لوضع ما امكن من ضغوط على ادارة جو بايدن لمحاولة إرجاعه الى مفاوضات فيينا وفق شروطها هي وليس وفق شروطه هو… وهي بالمناسبة شروط مشتركة مع بعض حلفاء واشنطن في اوروبا وخارجها، بل هي في ذلك تتفق حتى مع موسكو وبكين!

نجا الكاظمي ونجا معه العراق من مذبحة كبيرة كانت هذه المرة ستجري (والله اعلم) داخل البيت الشيعي أساسًا وأولاً واستطراداً الى باقي مكونات العراق… ذلك البلد العربي الجميل والكريم والغني بثرواته البشرية والمادية.

شارك المقال