بين تقاذف الأزمات ومواجهة الهيمنة الإيرانية

علي نون
علي نون

يستأنف معنيون بمواقع السلطة الشرعية اللبنانية مسارهم المعتاد: يعملون على البارد في مناخ حار. ويقيسون شأنهم الخاص قبل الشأن العام. ويتمهلون في خطواتهم إزاء أحوال متسارعة وكأنهم في عالم آخر لا أزمات كبرى فيه ولا كوارث طاحنة ولا مصائب تتوالى في كل أمر حياتي وخدماتي ومؤسساتي وديبلوماسي ووجودي.

يتقاذفون الأزمة المفتوحة مع دول الخليج العربي، وكأنها مسألة عابرة لا تستحق الاستنفار ولا الاستغفار ولا السعي لتداركها واحتواء تبعاتها ومحاصرة احتمالاتها السلبية الواضحة والآيلة إلى التصاعد وليس التراجع، والاحتدام وليس الانفراج! وهم في ذلك يقدمون مرة اخرى دليلًا إضافياً على كونهم جزءاً أساسياً من المشكلة المطلوب منهم حلها او السعي الى معالجتها! وتلك ذروة محن اللبنانيين في زمن المحل والقحط والسقوط هذا! باعتبار ان اصل القرار الخليجي الموحد إزاء لبنان والمتدرج صعوداً، بدأ مع ما قاله وزير بشار الاسد لكن قولته، ذلك الضحل لم تكن هي الاساس! بل المسار السياسي، الدستوري والشرعي للقيمين على الجمهورية وشؤونها وعلاقاتها الخارجية والذي افضى الى التسليم بمعادلة قاتلة وظالمة جوهرها تبادل خدمات مع حزب ايران لصالحه وصالح ايران على حساب كل شيء في لبنان، في مقابل تمكين هؤلاء من شكل السلطة وبهرجتها وعطاياها ومنافعها الوفيرة والغزيرة! ولذا يبدو أداؤهم الراهن ثابتاً عند زبائنيته واستلحاقيته وتبعيته لحزب ايران على الرغم من كبر المصيبة وجلل الخطب! يتصرفون وفق السياقات الماضية وكأن لا حول لهم ولا قوة لا بالشرعية الدستورية التي يمثلونها ولا بالشرعية الضميرية الواجب اعتناقها تبعاً لما حلّ بالبلد واهله ولما يمكن ان يحلّ به وبهم اكثر اذا ما استمر ذلك الغشيان الرسمي على حاله! واستمر ذلك التواطؤ الكريه على التذاكي ومحاولة معالجة شكل الازمة وليس مضمونها، واللعب بالمواقف وصيغ الكلام من دون تعديل جوهري في تلك المواقف ولا ترجمة فعلية لذلك الكلام.

وليس صحيحاً القول إن هؤلاء لا قدرة لهم على المعاندة او إشهار الرفض لما يفعله حزب ايران في لبنان، وانطلاقاً منه حيال المجموع العربي والخليجي عموماً، والسعودية خصوصاً. وليس صحيحاً ان الكامشين على السلطة الشرعية غير قادرين على اعادة تصويب المسار الرسمي بالاتجاه العربي العام وإخراجه من محوريته الايرانية، او غير قادرين على كشف الغطاء عن أداء الحزب الايراني وسلاحه وأدواره في الخارج القريب والبعيد، والتزامه أجندة صاحب القرار في طهران بما عناه ذلك سابقا ويعنيه راهنا ومستقبلا من استدراج أكيد لكوارث ومعارك ومواجهات ونكسات لا يحتملها لبنان ولا تتصل بمصالحه العليا والسفلى ولا بهويته ولا بتاريخه ولا باجتماعه الوطني ولا بطبائع اهله في جملتهم الكاسحة. وليس صحيحاً أن القرار الشرعي مأسور الى الحد الذي يحاول المعنيون به إظهاره للناس اينما كانوا، ولا للمراجعين والمتضررين من ضموره وتقزمه. بل الاصح والارجح هو ان ذلك القرار ضحية أسر مزدوج: الاول بواسطة حزب ايران وأساليبه المعهودة والثاني بواسطة اصحاب السلطة الشرعية أنفسهم! ادعاء البعض منهم ان تثبيت الشرعية يعني حرباً مع حزب إيران هو تزوير وبلف لا يليقان بأحد! ومثال الرئيس السابق ميشال سليمان لا يزال طريًا في ذاكرة الجميع! لم يفتح الرجل معركة مع ذلك الحزب لكنه وضع سقفاً لحدود تطاوله على الدولة وشرعيتها ونجح الى حد ما في حفظ كرامة هذه الدولة وكرامة حراسها الشرعيين! لكن الفارق بينه وبين من خلفه في الموقع الدستوري الأول، هو انه لم يشأ تدمير الدولة ومؤسساتها وعلاقاتها الخارجية من اجل ضمان ترئيس صهره او ضمان أمجاده الشخصية على حساب كل شيء آخر! وبالتالي، فإن محاولة تكبير تبعات إعادة وظائف الدولة اليها وتثبيت حصرية حقها بحمل السلاح والتقرير والتدبير في الملمات الكبيرة، في الحروب والمواجهات وفي السلام والمعاهدات وفي وضع سياسة خارجية تتوافق وتتلاءم مع البلد وانتمائه وتاريخه وتنوعه وبما يصون مصالحه اولاً وثانياً وثالثاً. محاولة تكبير الحجر والقول ان ذلك في جملته سيدمر لبنان، هو في الواقع والخيال، إذعان لأهواء شخصية ومطامح خاصة وترجمة لمعتقدات ومعتنقات سياسية خطيرة لا تشبه لبنان ولا اللبنانيين بشيء! وهذه المثالب في كليتها وجزئياتها هي التي اوصلت لبنان واهله الى هذا الدرك من التردي والانهيار والانكسار والذل والفقر والقنوط العميم! وهي التي ستدفع الوضع الى ما هو أسوأ من ذلك كله. اذا كان لبعض الثقات أن يتخيلوا معاني الذهاب الى ذلك الاسوأ.

لا يعني رفع الصوت في وجه تحويل لبنان الى منصة نفوذ لايران واجندتها سعياً الى تدمير لبنان او اعادته الى اتون الحرب ومصائبها وكوارثها. ولا تعني الدعوة الى تمكين الدولة من وظائفها دعوة الى الفتن. ولا تعني المطالبة بتثبيت ارتباطات الدولة بمحيطها العربي فتحاً لمعركة كبرى لا قدرة عليها. ولا تعني الدعوة الى تحييد لبنان عن حروب الخارج استدراجاً لتلك الحروب الى الداخل. ولا تعني فضائل الوفاء والشكر والامتنان لمن ساعد اللبنانيين على مدى تاريخهم الحديث، انتهاكًا لكرامتهم او تطاولاً على سيادتهم. ولا تعني الدعوة الى حفظ كرامة المفترى عليه ظلماً وبهتاناً، إهانة للبنانيين او مسّاً بقيمهم وعزّة نفوسهم! ولا تعني الدعوة الى انقاذ لبنان من الفناء تمويتاً له ولاهله بل العكس هو الصحيح، هذا اذا أراد بعض “الشرعيين” فيه ذلك المسار الإحيائي… وتلك أم الأسئلة وأم المصائب.

شارك المقال