وماذا لو لم تكن هذه المحكمة؟

اكرم البني
اكرم البني

أثار حكم السجن مدى الحياة الذي أصدرته محكمة كوبلنز الألمانية بحق العقيد “أنور رسلان” رئيس قسم التحقيق فيما يعرف بفرع الخطيب / 251 / عقاباً له على ما ارتكبه من اعتقال وقتل وتعذيب للسوريين، وقبله صدر الحكم لمدة أربع سنوات ونصف السنة، من المحكمة عينها بحق صف الضابط “اياد غريب” بسبب مساعدته على اعتقال سوريين وتعذيبهم. وبعده، منذ أيام، انعقدت أول جلسة لمحكمة فرانكفورت لمحاكمة طبيب سوري متهم بتعذيب المرضى وايذائهم وقتل أحدهم في المستشفى العسكري الذي كان يعمل فيه… أثارت هذه التطورات جملة من الأسئلة وردود الفعل حول جدوى هذه المحاكمات، هل تحيي الموتى وتعيد المفقودين إلى أهاليهم والمشرّدين الى بلادهم؟ ألا يصح اعتبار ما جرى ويجري مجرد عبث غايته حرف الصراع السوري عن مجراه السياسي الحقيقي، ربما لأن أحد تداعيات هذه المحاكمات هو نسف الحل السياسي أو على الأقل عرقلته؟ ولم لا يكون الغرض من محاكمة مجرمين سوريين يعيشون في أوروبا هو تقديم أكباش فداء تمهيداً لتبرئة النظام السوري والرؤوس الأكثر إجراماً فيه؟ ألن تخلق هذه المحاكمات خشية لمن يريد من رجالات النظام الانشقاق عنه وتدفعه للالتصاق أكثر بالسلطة الأمنية وارتكاباتها، ما دام الضابط “أنور رسلان” قد هرب من سوريا والتحق، مدعياً انشقاقه، بالمعارضة السورية؟ إلى آخر هذه التساؤلات التي تحمل في صلبها انتقاداً لما جرى وأحياناً رفضاً صريحاً له.

صحيح أن هذه المحاكمات لن تخرج الزير من البير ولن تعيد للقتلى أراوحهم، لكنها هي على الأقل تشكل عنواناً صريحاً لبدء مواجهة “سياسة الإفلات من العقاب” التي طمأنت النظام السوري وغيره من الأنظمة القمعية، وأشعرتهم بالأمان وبأن لا أحد يمكنه مراجعة ما يقومون به ومحاسبتهم عليه ولو بعد حين. ثم لنسأل، ألا يفضي رفض هذه المحاكمات والاستهزاء بها إلى الاستهانة بضحايا الاعتقال والتعذيب، وممن تجرأوا وقدموا شهادات حية عما عانوه، وتالياً مصادرة حق هؤلاء الضحايا في مقاضاة جلاديهم، خاصة أن بعضهم يغامر بمصيره ومصير أقاربه في سوريا، حين يتمسك بتقديم شهادته ويتجاهل ما يصله من تهديد ووعيد؟ ألم تفضي لائحة الاتهامات التي قدمت ضد المرتكبين، إلى وضع النظام السوري بمختلف أركانه وشخصياته في قفص الاتهام، فكيف الحال وقد تضمنت حيثيات قرار الحكم وقرائن ملف الشهود ومطالبة النيابة العامة عبارات صريحة وأمثلة تاريخية، عن مجازر ارتكبت في السنوات المنصرمة وكانت استمراراً لمجازر قديمة كأحداث حماة /1982/ ومجزرة تدمر /1980/ وغيرها، مما يؤكد حصول جرائم منظمة وممنهجة في سوريا على يد سلطة حكمت البلاد بالحديد والنار والإرهاب! أليست قيمة نوعية لإدانة النظام السوري عندما تسمح المحكمة للشهود بتوثيق ما قامت به الآلة السلطوية الجهنمية، بالأسماء والأزمنة والأمكنة، من اعتقال المدنيين وإخفائهم قسراً وقتلهم تحت التعذيب وطمر جثامينهم بطريقة يندى لها الجبين، كالشهادة المرعبة لأحد المأمورين بحفر قبور جماعية لعشرات آلاف الهياكل البشرية الممهورة برقم الفرع الأمني الذي اعتقلها؟

ربما هو أمر صحيح أيضاً، أن تفضي هذه المتابعات القضائية الى خوف النظام من الحل السياسي خشية استتباعه بمحاكمات ومحاسبة وعقاب، أو أن تشكل فضائح ارتكاباته موقفاً دولياً يستمر في رفض تعويمه والاعتراف به، لكن من من الشرفاء يريد إعادة انتاج الوطن مع نظام مجرم؟ ثم متى كان هذا النظام راغباً في الحل السياسي؟ أليس هو نفسه الذي رفض التقدم خطوة في المفاوضات التي جرت لسنوات طويلة بعهدة الأمم المتحدة بل لم يقدم وهو في أشد لحظاته ضعفاً أي تنازلات ذات قيمة تسهل التقدم نحو الحل السياسي، فكيف الحال اليوم وهو الذي يتغنى بالانتصار، ويعتقد أنه أصبح القوة الوحيدة التي تؤثر في مجرى الصراع؟

بلا شك لن تشجع هذه المحاكمات من يرغب من ضباط النظام على الانشقاق عنه، لكن من الذي سوف ينشق اليوم بعد كل ما تم ارتكابه، وبعد واقع لم يعد هناك فيه أمل من معارضة مفكّكة ومشتّتة ولم تعد تحوز الثقة والصدقية لدى السوريين، ولنقل لم تعط صورة جاذبة لاحتواء المنشقين العسكريين، بل أهملتهم؟ ثم هل يمكن لانشقاق أي مسؤول في النظام السوري ووقوفه على الحياد أو انضمامه للمعارضة أن يبرئه من مسؤوليته القانونية والأخلاقية عما ارتكبه قبل انشقاقه ما دامت أفعاله تدرج ضمن نطاق الجرائم ضد الإنسانية، ويزيد الطين بلّة حين لا يبادر هذا المنشق الى الاعتراف بجرائمه والاعتذار لضحاياه، وكشف ما يمتلكه من معلومات وأدلة، تفضح التسلسل الهرمي المسؤول عن إصدار الأوامر، كي توثق الأسماء والجرائم؟

أما لمن حاول العزف على الوتر الطائفي أو القومي غامزاً من قناة انتماء هذا المتهم أو ذاك إلى هذه الطائفة أو تلك، فالحقيقة تقول أن هذا المسار من العدالة والمحاكمات هو عابر للأديان والقوميات وجوهره محاسبة كل مرتكب تبعاً لملفه الاجرامي من دون النظر الى منبته وأصله، ومثلما هناك دعاوى ضد مرتكبين من مختلف الطوائف والإثنيات، فإن القصاص لا يقتصر على جلادي النظام وشبيحته، أصحاب السجل الأوسع والأفظع من الانتهاكات، بل يمتد ليطاول الجرائم الخطيرة التي ارتكبها قادة وأفراد في مناطق المعارضة، وفي مناطق الفصائل الكردية، بمن فيهم قادة الميليشيات الموالية لإيران وامراء التنظيمات الاسلاموية الذين عاثوا إجراماً وفساداً حيثما حلوا.

طبعاً، ما كان لهذه المحكمة أن تنعقد لولا التوظيف العالمي المغرض لمبادئ حقوق الانسان، وتعطيل بعض الأطراف الأممية، كروسيا والصين، ولأسباب سياسية، دور مؤسسات الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية في متابعة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في سوريا، يحدوه تواطؤ وصمت البعض الآخر، ولأسباب سياسية أيضاً، على فظاعة ما تعرض له المدنيون السوريون من انتهاكات، مما فتح الباب لتفعيل واستثمار مبدأ الولاية القضائية العالمية الذي اعتمدته بعض الدول الأوربية، ومنها المانيا عام / 2002 / وتبيح ملاحقة المشتبه باقترافهم جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، كجرائم التعذيب والإبادة، أياً تكن جنسياتهم وأيا يكن موقع الجريمة، ومقاضاتهم على ما ارتكبوه.

ويبقى أن هذه المحاكمات ليست سوى حلقة من سلسلة حلقات تتمفصل وتتكامل لفضح انتهاكات النظام السوري وارتكاباته، وكي لا يفلت أي مرتكب من المساءلة والعقاب، ومن هذه الحلقات، ملف صور قيصر، ومحاكمات مماثلة تجري في غير دولة أوروبية، ودعوى قضائية رُفعت في المانيا من قبل ثلاث منظمات حقوقية “مبادرة عدالة المجتمع المفتوح” و”الأرشيف السوري” و”المركز السوري للإعلام وحرية التعبير” حول استخدام السلاح الكيمياوي عامي / 2013 و2017 / ثم ما أثير مؤخراً عن وجود أكثر من 900 ألف وثيقة حكومية جُمعت خلال سنوات الحرب وتم تهريبها لتشكل أدلة قوية على تورط النظام السوري، بمختلف رموزه، بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

أخيراً نسأل ببساطة، وماذا لو لم تكن هذه المحكمة؟ وماذا لو لم ينعش حياتنا هذا الجهد الذي يقوم به حقوقيون في جمع الأدلة والوثائق وتحضير الشهود لقول شهادتهم أمام محاكم متخصصة بإدانة المرتكبين ومحاسبتهم على جرائمهم؟ هل المشهد سيكون أقل سوءاً أم أسوأ؟ الم يشكل ما يجري بداية اختراق لحالة الإحباط واليأس التي يعيشها السوريون بعد عشر سنوات عجاف من اعلان ثورتهم، خاصة أن الأمم المتحدة وكثير من المؤسسات والمنظمات الحقوقية اعترفوا بأن هذه المحاكمات هي خطوة تاريخية غير مسبوقة في طريق النضال من أجل تحقيق العدالة؟

رحلة الأف ميل تبدأ بخطوة، وبدلا من أن نلعن الظلام، نشعل شمعة!

شارك المقال