الحاكم لعب خرطوشته الأخيرة… والانهيار الكبير آت “الا إذا”

ليندا مشلب
ليندا مشلب

ماذا يريد صندوق النقد الدولي؟ الشروط التي يضعها واضحة، لكن السؤال الأصح: ماذا قالت الدولة للصندوق؟

لقد قدمت الحكومة مشروع موازنة للعام 2022 بنفقات إجمالية 49 ألف مليار ليرة وايرادات بـ39 ألف مليار، أي أن العجز يقدر بـ10 آلاف مليار ليرة، من دون أن يشمل هذا الرقم سلفة الخزينة لمؤسسة كهرباء لبنان والبالغة حوالي 5 آلاف مليار ليرة، فيصبح عندها العجز 15 ألف مليار ليرة. فاذا ما احتسب هذا الرقم على ايرادات مرتقبة بـ39 ألف مليار، يعني أن نسبة العجز ستشكل نحو 39 في المئة منها، وبالتالي يستحيل أن يمنح صندوق النقد قرضاً على اساس عجز مرتفع كهذا، لأن لا ضمانات بامكانية سداد لبنان، المتعثر أصلاً، لديونه، لا سيما وأنه لم يقدم خلال السنوات الثلاث الأخيرة على أي خطوة إصلاحية.

فالصندوق يريد موازنة حقيقية وصحيحة وليس “كاذبة” كالتي أعدتها الحكومة، وتحديداً واضحاً للخسائر في القطاع المالي وتوزيعها بشكل عادل لمعرفة الأرقام الدقيقة، وهذا ما لم يحصل. كما يطالب بتوحيد سعر الصرف، وهذا أيضاً لم ولن يحصل. وكان الصندوق يفضل خطة “لازارد” لأنها الأقرب الى منطقه في تحديد الخسائر وتوزيعها، لكن الفريق اللبناني المفاوض أحبطها، ولم يرق له تحميل النسبة الكبرى من الخسائر للمصارف بحجة الخوف من إفلاسها وما يمكن أن يكون له من تداعيات خطيرة. ولا ننسى أن المصارف سبق وأكدت أنها لن تسير بهذه الخطة.

“الأزمة غير مسبوقة ولم تمر علينا من قبل…” إنها أزمة لبنان بحسب توصيف صندوق النقد الدولي، وهي سهم أصاب الدولة في صميمها: الدين العام الإجمالي الذي يقدر اليوم بـ100 مليار دولار ولا امكانية لسداده لعدم توافر الأموال، وخسارة القطاع المصرفي مع تبخر 80 مليار دولار هي ودائع الناس (ففي اليونان وقبرص والأرجنتين مثلاً، تعثرت الدولة وليست المصارف، أما في لبنان فالقطاع المصرفي كله تعثر). هذه الفجوة لا يختلف عليها اثنان، لكن هناك حالة من الانكار لا يزال يعيشها البعض، أو بتقدير مختلف قليلاً في احتسابها. والمصيبة الكبرى في القطاع العام المترهل، والكهرباء العصية على الحل. ففي الدول التي واجهت مشكلات مالية لم يصل فيها الوضع الى هذا الدرك، وبقي بنيان الدولة متماسكاً وقطاعاته الخدماتية تعمل، أما لبنان فيحتاج إلى 50 مليار دولار ليصل الى مستوى تلك الدول التي تعثرت قبل أن يعالج مشكلة تعثره… نحن انتهينا؟ فمن أين نبدأ؟

الخطة التي أعدها الفريق المفاوض، واستعان فيها الرئيس نجيب ميقاتي بخبيرين نصحه بهما الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى جانب نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي والنائب نقولا نحاس، كانت خليطاً بين تقديرات خاصة ومنطوق مصالح مصرفية على توجهات من خطة “لازارد”. لكن في لبنان لا أحد يعد خطة اقتصادية الا الواقع. والواقع يقول إنه يجب تحديد الخسائر في القطاعين المالي والمصرفي وتوزيع نسبة تحميل الخسائر من الأعلى الى الأسفل، فبدءاً بأصحاب المصارف (مجلس الادارة، المساهمون) ثم أصحاب الودائع الكبيرة التي استفادت من فوائد كبيرة تفوق بكثير الفوائد العالمية (وديعة مثلا تقدر بـ20 مليون دولار استفادت بزيادة 10 ملايين دولار فوائد على مدى 20 عاماً) وهكذا… إضافة الى مصرف لبنان الذي عليه مسؤولية كبيرة، وخاصة في السنوات الثلاث الأخيرة التي ينقص فيها الاحتياط من خلال السياسة المنتهجة، وآخرها منصة “صيرفة” التي يدعم فيها الدولار من الاحتياطي لتثبيته نسبياً.

ولعل ما قاله الشامي في لقائه الأخير مع الهيئات الاقتصادية، والذي وصف بالصريح والصادق والدقيق، يعبّر جيداً عن الواقع. إذ لم يتحدث عن أن تقدماً حققه لبنان مع الصندوق حتى الآن، ولم يناور في توصيف حقيقة الوضع، واضطر في مكان ما الى قول ما يجب ألا يقوله لجهة خسارة الودائع وتصفير رأسمال مصرف لبنان المقدر بـ3.7 مليارات دولار والأصول الأخرى والموجودات للمصرف والمقدرة بـ7 مليارات دولار. وهذه ستكون حصة مصرف لبنان بالخسارة، كذلك سيتم تصفير رساميل المصارف المقدرة بـ 13 مليار دولار، لكي ننتقل الى كبار المودعين عبر آلية معينة (Bail In) في أسهم المصارف، فيما صغار المودعين (الذين تتراوح ودائعهم بين 50 ألفاً و100 ألف دولار) فستتم اعادة الجزء الأكبر من أموالهم. وهو قدر الفجوة بـ73 مليار دولار بعدما كان أعلن سابقا أنها تقدر بـ69 مليار دولار، وأقر بأن كل يوم تأخير سيرفع هذا الرقم (مع حسم قيمة الذهب التي تبلغ حالياً 18 مليار دولار). مع الاشارة الى أن احتياطات مصرف لبنان بالعملات اليوم تبلغ 11.9 مليار دولار.

ما يحصل اليوم في التفاوض هو المواءمة ما بين مطالب صندوق النقد الدولي والخطة المشتركة للحكومة بشكل يحفظ حقوق البلد. وقد ربط الشامي هذه الخطة بتشريعات من مجلس النواب “والا ذاهبون الى أزمة أكبر وكل هذه الأرقام لن تعود صالحة مع التغير الدراماتيكي السريع بالتدهور”.

أما هذه التشريعات فهي: “الكابيتال كونترول” بشروط قاسية جداً؛ واستدامة دين الدولة أي أن تصبح مداخيلها أكبر من نفقاتها، وهذا الأمر غير موجود في الموازنة الحالية؛ وأهم قانون هو إلغاء السرية المصرفية (تعديل القانون أو الغاؤه كلياً) بموازاة هيكلة القطاع المالي بشقيه المصارف ومصرف لبنان، وهذه الأمور كلها صعبة جداً. وبديل كل هذا، بحسب مصدر اقتصادي رفيع المستوى، أفكار طويلة الأمد محفوفة بمخاطر الانهيار الكبير، وكل تأخير سيزيد الخسائر ويجعل الحل الداخلي مستحيلاً.

ويقول المصدر لموقع “لبنان الكبير”: “بعد ساعات قليلة من توقف مصرفين عن العمل بمنصة صيرفة، ارتفع الدولار 3 آلاف ليرة، وهذا مؤشر خطير. فكيف اذا أوقف مصرف لبنان المنصة نهائياً؟ مين بيهدي الدولار؟”. علماً أن “المركزي” بدأ يمهد للإلغاء عبر وقف شراء الدولارات للأفراد من المصارف من مبالغ مالية نقدية بالليرة.

الحاكم أعطى فترة سماح عبر اطلاقه الخرطوشة الأخيرة، وهذه الفترة شارفت على الانتهاء والآتي أعظم. الانهيار الكبير قادم لا محالة الا اذا أعلنت الحكومة وكل أركان الدولة حالة طوارئ للانقاذ بعيداً من كل الحسابات. فهل هذا الحل ممكن؟ بالتأكيد لا، لأن لا توافق سياسياً على أي ملف والكيدية موجودة في كل شيء. فمن يتحمل اتخاذ قرارات غير شعبوية؟

شارك المقال