تحديّات دوليّة غير منظورة على الطريق!

رامي الريّس

من قال ان الحرب الباردة بين الأقطاب الدوليين قد وضعت أوزارها مع إنهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينيات من القرن الماضي؟ صحيحٌ أن بعض مضاعفاتها المباشرة قد تراجعت إلى حد بعيد، وصحيحٌ أيضاً أن عدداً من الصراعات الدوليّة قد أخذ منحنيات مغايرة عن المسارات التي كان يسلكها في أوج حقبة النزاع السياسي بين القطبين؛ ولكن الصحيح أيضاً أن نظريّة الآحاديّة الأميركيّة التي راجت خلال العقود الثلاثة المنصرمة آيلة إلى الإنحسار.

كما أن فكرة “التفوّق الغربي” التي فاخرت بها حكومات الغرب على مدى سنوات طويلة لا سيّما بعد تجاوز الآثار المدمرة للحرب العالميّة الثانية، باتت تحتاج إلى قراءات متجددة في ضوء الصعود الصيني الهائل الذي قلب وسيقلب الموازين الدوليّة خلال الأعوام القليلة المقبلة، خصوصاً أن المعسكر الغربي نفسه يعاني من إضطراباتٍ سياسيّة وإقتصاديّة كبيرة.

لقد شكّل الإنسحاب البريطاني من الإتحاد الأوروبي ضربة قويّة لفكرة الوحدة الأوروبيّة التي تطلب التوصل إليها حقبة زمنيّة طويلة من العمل المشترك الحثيث على المستويات السياسيّة والإقتصاديّة والتجاريّة. وإذا كان الاتحاد لا يزال ينجح في توحيد مواقفه إزاء أزماتٍ كبرى قد تعصف به (مثل الحرب الروسيّة على أوكرانيا)؛ إلا أنه لا يزال عاجزاً عن القيام بمبادراتٍ إستراتيجيّة تتيح له توسيع هامش إستقلاليته عن الولايات المتحدة التي تهيمن بصورة أو بأخرى على السياسات الأوروبيّة.

حتى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أوصى في كلمته الأخيرة أمام مجلس العموم قبل مغادرة السلطة بتعزيز العلاقات السياسيّة مع واشنطن، وهو ما يعكس عمق العلاقة التاريخيّة بين الحليفين التي كانت لندن في الكثير من الأحيان تعطيها الأولويّة على حساب علاقاتها العضويّة مع أوروبا قبل إنسحابها منها. ولا مغالاة في القول ان جانباً من هذه العلاقة الاستراتيجيّة أثّر سلباً على مشروع الاتحاد الأوروبي وصولاً إلى الخروج النهائي منه.

ولم تنجح الدعوات المتكررة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي طالب فيها نظراءه الأوروبيين بـ “إنشاء جيش أوروبي” في الوصول إلى نتيجة ملموسة. والهدف الواضح لباريس التفلت من “الهيمنة” الأمنيّة والعسكريّة لحلف شمالي الأطلسي (الناتو) الذي يخضع لسيطرة واشنطن بصورة كبيرة.

أن تعجز قارة بحجم أوروبا، يعيش فيها نحو 500 مليون نسمة، وتضم دولاً ثريّة وتملك إمكانات ماليّة كبيرة عن إنشاء جيش موحد، فإن ذلك يطرح علامات إستفهام كبرى حول المستقبل السياسي المشترك للقارة وحول طبيعة العلاقات الدوليّة الناشئة عن ذلك.

إن تركيز واشنطن على مواجهة المد الصيني الذي يسير بهدوء ومن دون ضوضاء سياسيّة وإعلاميّة من خلال ضخ مئات المليارات من الدولارات في أفريقيا ودول العالم الثالث، ليس كافياً للحفاظ على الواقع الدولي كما هو عليه. ثمّة تحديات تفرض نفسها على مستويات إقليميّة كبيرة ليس أقلها الملف النووي الإيراني وإستمرار الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين من دون حلول جذريّة.

العالم يتغيّر بصورة كبيرة، وسيتغيّر أكثر مع إستمرار الحرب في أوكرانيا مع ما ستتركه من مفاعيل هائلة على الصعيد الإقتصادي والنفطي وقدرة الدول على مواجهة هذه المتغيرات المتسارعة.

شارك المقال