الإنقاذ المستحيل

هدى علاء الدين

لم يعد الحديث عن الإنقاذ في لبنان أمراً سهل المنال أو التحقيق، بل سيبقى حلماً في أذهان اللبنانيين المحاصرين بالأزمات على اختلافها في وطن تُبتدع فيه المشكلات من دون أي رحمة وتغيب عنه الحلول عن سابق تصوّر وتصميم. سنوات لبنان العجاف المليئة بالذل والقهر وشتى أنواع العقاب والعذاب لم تجد حتى الآن طريقاً لخواتيمها. سنوات هي الأخطر في تاريخ لبنان على الحجر والبشر، أراد صانعوها أن تكون عنواناً مكتوباً بأحرف الدمار والانهيار، حتى بات لبنان اليوم أكثر البلدان العربية انكساراً وضعفاً وهزيمةً.

أخلاقياً، يُعدّ الإنقاذ واجباً وطنياً لا بدّ من القيام به من أجل مساعدة من هم بحاجة إليه، فكيف إذا كان المحتاج هو وطن غرق شعبه في مستنقعات الأحقاد السياسية وتجرع كؤوس الأزمات الاقتصادية؟ فعلى مدى سنوات ثلاث، لا تزال المؤشرات السلبية والأرقام الصادمة مالياً ونقدياً ومعيشياً الدليل الأكبر على الانزلاق نحو الهاوية، وعلى الرغم من أن لبنان كان يمتلك العديد من المفاتيح لكبح هذا الانهيار وتفادي أكبر قدر ممكن من تداعياته وانعكاساته، إلا أن سوء الإدارة وغياب الإرادة أدّيا إلى فشل كل الحلول وتبعثر الخطط الاقتصادية كافة، وجعل الأمر أكثر سوءاً، وعوض تذليل العقبات وتقليص الهوامش بين شرائح المجتمع واستعادة القدرة على التحكم بزمام الأمور، ازداد الإمعان في أخذ القرارات العشوائية والترقيعية.

سيوثق التاريخ حتماً سنوات الانهيار هذه وسيوثق معها محاولات القضاء على سمات لبنان الاقتصادية والاجتماعية كافة بقصد أو بغير قصد. فقصة هذه السنوات لا يمكن اختصارها بسطور، لكن ما قبل العام 2019 ليس كما بعده بكل ما للكلمة من معنى. فشل وعجز من العيار الثقيل أصاب مصادر القرار على اختلاف وجهاتها، وأخطاء فادحة بالجملة بات من الصعب تصحيحها جعلت البلد بأكمله رهينة استنزاف الوقت والتفكير الاعتباطي الذي يهدف إلى أخذ كل دولار متوافر في جيوب اللبنانيين، التي أصبحت محط أنظار حكومات فشلت في إيجاد مصادر جدية ومستدامة تدعم بها خزينتها ووجدت فيها سبيلاً لتمويل نفقاتها من دون تكبّد أي عناء، وحلاً يُغنيها عن إجراء أي إصلاح يكسر القيود أمام تدفق العملة الصعبة من جديد.

وفي النتيجة، دخل لبنان في ركود تضخمي وتحوّل الغني إلى فقير والفقير إلى قنبلة موقوتة لا يمكن التنبؤ بموعد انفجارها. حتى أن غياب الأمن الغذائي والاجتماعي وصعوبة الاستشفاء لم يشفع للبنانيين لكي يتكاتف صانعو الانهيار ويضعوا مناكفاتهم السياسية جانباً من أجل العمل على التخفيف من حدة الأزمات. وتحوّل بموجبها سعر الصرف إلى أسعار صرف فتحت الباب على مصراعيه أمام تشريع السوق السوداء، وامتهن اللبنانيون عمل الصرافين والمتاجرة بالعملات والوقوف في الطوابير للحصول على الخبز والبنزين والقليل من الدولارات من المصارف، بعد أن أصبح أكثر من نصفهم تحت خط الفقر بكثير، وباتت يومياتهم أشبه بكابوس يصعب تصديقه.

يُقال إن الأزمات تظهر حسن المواقف ومكارم الأخلاق، لكن أزمة لبنان أظهرت عكس ذلك تماماً. ففي أزمة كهذه قلبت الأوضاع رأساً على عقب يصح القول بأن الكلّ مسؤول والكلّ مشارك والكلّ مستفيد… ساسة ومنتفعون وأصحاب نفوذ وسيطرة وهيمنة لا يريدون إلا الانهيار ولا شيء سواه، فالكلّ مستثمر في تعزيز هذا الانهيار بثبات وعزيمة، والكلّ متفق على عدم الإنقاذ.

شارك المقال