أسرار لبنانية عن الملك سلمان (2-2): لبنانيون في القصر

أحمد عدنان
أحمد عدنان

في منتصف الستينيات الميلادية، تزوجت صونيا، ابنة الزعيم اللبناني سليمان فرنجية، من الطبيب عبدالله الراسي الذي يعمل في الرياض، وقبيل سفرها إلى المملكة، نصحها والدها قائلاً: “أنت تسافرين إلى بلد غريب ومختلف تماماً عن بلدك. تذكري دائماً أن عليك احترام عاداتهم وتقاليدهم هناك. والعائلة المالكة السعودية توازي العائلات المالكة في أوروبا أهمية. إذا تكلفت عناء الإصغاء بانتباه، يمكنك أن تتعلمي القيم العربية الحقيقية. وقد تكون هذه تجربة مثرية جداً لك”.

كان استقبال صونيا وزوجها في الرياض حافلاً، فاللبنانيون والسعوديون من معارف عبدالله لم يتوقعوا عودته لأنهم ظنوا أن ابنة سليمان فرنجية لن تقبل بالعيش في المملكة. تصف صونيا لبنانيي المملكة في تلك المرحلة، بأنهم لا يفكرون إلا في شيء واحد، العمل لأقصر فترة ممكنة وجني أكبر مبلغ من المال للعودة إلى لبنان مجدداً، نادرون جداً كانوا أولئك الذين يبذلون جهداً لفهم حياة السعوديين. تقول صونيا إن التوجس ساد بين اللبنانيين والسعوديين، إذ كانت عمليات النصب التي يرتكبها بعض اللبنانيين مستغلين براءة السعوديين لا تحصى وبمبالغ طائلة. كان السعوديون يتخوفون من أيّ لبناني، كانوا شبه أكيدين كلما التقوا أحدهم أنه سيسعى للإيقاع بهم، فأصبحوا أشراراً كلما أتيحت لهم الفرصة. كانت ذهنيتا البلدين مختلفتين تماماً، لكن المبالغ المالية الضخمة المستثمرة في المشاريع تولت تلطيف المشاعر السيئة.

على الرغم من توصيف صونيا فرنجية الذي تتحمل مسؤوليته، إلا أن بعض تلك الصور التي رسمتها جعلت لزوجها عبدالله الراسي دوراً مهماً في الرياض، فبالإضافة إلى عمله كطبيب، لعب دور السفير والقاضي والمحامي عند السعوديين واللبنانيين، تمتع بتلك المكانة لنزاهته الشخصية، وقبل ذلك لصداقته مع حاكم الرياض، الذي سيصبح حاكم المملكة كلها بعد نصف قرن، الأمير (الملك) سلمان بن عبدالعزيز آل سعود.

حين تقع مشكلة بين طرف سعودي وطرف لبناني، إذا كان السعودي هو المخطئ يتولى أمره الأمير سلمان، أما إذا كان اللبناني هو المخطئ، فعبدالله هو من يدفع المبلغ المختلف عليه من جيبه الخاص، كما يتكفل بتذكرة سفره إلى لبنان، وينتهي الأمر. أدوار عبدالله الراسي جعلت عيادته مركزاً مهماً في الرياض، يضاف إلى ذلك ثقة العائلة الملكية به.

سور الرياض

الصحراء صدمت صونيا بفلواتها التي لا تنتهي من الرمل والكثبان والصمت. تقول فرنجية: “الصحراء تسحق المرء بجلالها. في الليل، لا غيمة تكدّر سماء المملكة، القمر والنجوم في متناول اليد، تلك النجوم تبرق كما لا تبرق في أيّ مكان آخر. لا تعرف الصحراء الظلام الكامل أبداً، فإن غاب القمر أشعّت النجوم”.

دعت والدة الأمير هذلول بن عبدالعزيز، عبدالله وزوجته إلى العشاء، كانوا أربعة، الأمير هذلول ووالدته وعبدالله وزوجته. على مائدة الطعام البالغ طولها ستة أمتار، قدمت خروفين فوق وعاء كبير ومستدير من الأرز، يحيط بهما عدد لا يحصى من الأطباق الفاخرة والغنية. بعد أسبوع، دعت صونيا أم هذلول إلى العشاء في منزلها وقدمت لها مأدبة لبنانية صرفة. بعد فترة من الوقت، دعت أم هذلول صونيا إلى عشاء يتلوه فيلم سينمائي، فوجئت صونيا بأن أم هذلول أعدت مأدبة لبنانية مطابقة لمأدبتها. سألت أم هذلول ابنة سليمان فرنجية: “ألست أتعلم بسرعة؟!”، فحارت صونيا جواباً إذ لم يسبق لها قط أن التقت بامرأة يسيطر عليها كل هذا النهم إلى التعلم.

رتبت أم هذلول لقاء لصونيا فرنجية مع الملك فيصل عام 1966. تصف صونيا قصر الملك، هندسته متواضعة وقاعات استقباله شاسعة، السجادات الضخمة غطت الأرض، واللوحات التي تحمل صورة الملك عبدالعزيز زينت الجدران. استقبل الخادم أم هذلول وصونيا بالقهوة العربية ثم دخل الملك، انبهرت صونيا بجلاله العظيم، كان نحيل البنية في ثوبه الأبيض الطويل، يتحرك بأناقة ناسك متقشف تسيطر عيناه الثاقبتان على المشهد. أسف الملك على مرض صديقه حميد فرنجية مؤكداً على أن أخاه سليمان يحمل المشعل بامتياز، أبدى حزنه على تفرق العرب، وأعلن غضبه من تصرفات إسرائيل الاستفزازية والإجرامية. رجت صونيا من الملك فيصل أن لا يهدموا سور الرياض القديم، لمعت عينا الملك بألف سؤال، ثم صافحها في نهاية اللقاء شاكراً. وبعد يومين من لقاء صونيا، صنف فيصل سور الرياض معلماً تاريخياً.

تعرفت صونيا أيضاً إلى زوجة الملك فيصل، رافقتها في الزيارة الأولى صديقتها جميلة فرعون زوجة مستشار الملك رشاد فرعون. كان استقبال زوجة فيصل بعيداً عن التكلف، الملكة الشقراء تضم شعرها الطويل في كعيكة بسيطة. في حضور الملكة، خالت صونيا نفسها في بيت إنكليزي، فالأثاث بسيط، لكنه ثمين أيضاً.

غادرت صونيا إلى لبنان لتلد ابنها البكر، حين عادت فوجئ عبدالله الراسي ببدوي سبق أن عالجه يقطع الصحراء وصولاً الى عيادته في الرياض كي يهديه معزاة، مؤكداً أن حليبها هو الأفضل في العالم لتقوية الوليد. كانت مكانة الراسي في المجتمع مرموقة، فهو طبيب الأمراء والبسطاء، ويروى أن الطبيب المحترم قطع مئتي كيلومتر في عمق الصحراء كي يعالج مريضاً احتاجه. ومن الواضح أن عمله في الرياض دعّم سيرته ليكون نائباً في البرلمان اللبناني ثم وزيراً للداخلية لاحقاً.

اندلعت حرب 1967، ألقى الملك فيصل خطاباً في ميدان سباق الخيل بعد الظهر، أكد على التزامه بالواجب المقدس، القتال من أجل فلسطين، ومع ذلك انفض الحشد غاضباً على حال الدول العربية المشاركة في الحرب والأخبار المزعجة من جبهات القتال. في ذلك اليوم نفسه كانت صونيا تحضر قداساً في مجمع البعثة الديبلوماسية الأميركية بالرياض، كانت صيغة الدعوة الى القداس عجيبة “سيصل آكل السمك عند الساعة الخامسة”. بعد حضور القداس وتناول القربان المقدس، اتجهت صونيا وصديقتها الأميركية ليزيت إلى المنزل، تزامن ذلك مع انتهاء خطاب الملك، اصطدمت السيارة بحشد من المتظاهرين الغاضبين، شاهدوا صونيا وليزيت داخل السيارة فصاحوا “أميركان، أميركان”، حوصرت السيارة بالغاضبين، وجوههم تشي بالكراهية وأياديهم تلوح بالعصي، صعد بعض الشبان فوق صندوق السيارة وفوق غطاء المحرك، وبمعجزة لافتة لاحظ السائق ثغرة خالية من الناس ومن الحفريات فانطلق خلالها كالصاروخ ولم يتوقف إلا في الصحراء، أوقف السائق سيارته وخرج منها باكياً. ذهب عبدالله الراسي الى الأمير سلمان شاكياً مما جرى، ابتسم الأمير برقة قائلاً لطبيبه: “أنت ترتجف كالورقة يا عبدالله، عد إلى منزلك، سوف نتخذ التدابير اللازمة”. في اليوم التالي تمت الدعوة إلى تظاهرة عامة، لكن الجيش السعودي أمن الرياض، وتم اقتياد المتظاهرين غير السعوديين إلى الحدود الأردنية، سلمهم الحرس الوطني بنادق ليقاتلوا في الجبهة لا في شوارع الرياض.

هدية الأخ الأكبر

تشهد صونيا فرنجية على رسالة سرية أوصلها السفير اللبناني الساحر عادل إسماعيل من الرئيس شارل حلو إلى الملك فيصل، بعدها وصل إلى الرياض ثلاثة ضباط من الجيش اللبناني والتقوا الأمير سلمان، قال لهم الأمير: “طلبكم سيلبى قبل أن تطلبوه”. وبالفعل، انطلقت إلى بيروت أربع طائرات سعودية محملة بكل أنواع الأسلحة إلى الجيش اللبناني “هدية من الأخ الأكبر إلى الشقيق الأصغر”. بعد إرسال الهدية، قال الأمير سلمان لعبدالله الراسي: “هذه الأسلحة فقدتم الأمل في امتلاكها من السوق العالمية، ونحن أهديناها لكم، ألا نستحق كلمة شكراً؟!”. كاتب عبدالله حماه سليمان فرنجية، اتجه سليمان إلى الرئيس شارل حلو الذي قال له: “لا يستحقون الشكر فقد دفعنا ثمن الأسلحة”، تم التحقيق في الموضوع، لتكتشف السلطات اللبنانية أن السعوديين أهدوا الجيش اللبناني أسلحة مهمة بلا مقابل، لكن المكتب الثاني اختلس ثمنها الحقيقي من الخزانة اللبنانية. ولتلافي الحرج، أرسل شارل حلو قائد الجيش اللبناني إلى الطائف ليقابل الأمير سلطان بن عبدالعزيز وزير الدفاع ويسلمه وساماً رسمياً رفيعاً.

تقول صونيا فرنجية: “منذ عهد الملك عبدالعزيز، حظي لبنان بمعاملة خاصة من المملكة، فلم ترفض أبداً أيّ طلب مساعدة من اللبنانيين”. وتروي صونيا عن الملك المؤسس جملة تاريخية سمعتها من كبار أبنائه: “لبنان هو نافذتنا المفتوحة باتجاه الغرب بفضل مسيحييه، دعونا لا نغلق هذه النافذة حتى لا نختنق. يجب أن يكون رئيس لبنان مسيحيا”.

بعد أن تولى سليمان فرنجية رئاسة لبنان، زارها وزير الدفاع الأمير سلطان، أهدى إلى صونيا ساعة “بياجيه” قاعدتها مرصعة بالفيروز وسوارها من المرجان. أقام الجيش اللبناني استعراضاً جوياً على شرف الأمير، لكن إحدى طائرات “الميراج” أصيبت بعطب تقني أسقطها أمام الحضور، وبعد أن اطمأن الأمير على سلامة قائدها أعلن أن “السعودية ستقدم للبنان كل ما يريد”، وللأمير سلطان زيارة تاريخية إلى زغرتا.

زار الملك فيصل أيضاً لبنان في عهد فرنجية في ظل توتر أمني واضح، وقال في خطاب بقصر بعبدا: “لبنان بلد المحبة، لبنان نافذتنا”. على هامش تلك الزيارة تم اعتقال السياسي اللبناني جان عبيد بتهمة ابتزاز رئيس الحكومة صائب سلام وتزوير أوراق رسمية تتعلق بالزيارة (يقول معارضو الرئيس فرنجية ان التهمة ملفقة). وتلت رحلة الملك زيارة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز العاشق الكبير للبنان والملك فيما بعد، لفت صونيا تساؤلات الأمير عبدالله عن الواعظ الشيعي المسيّس موسى الصدر.

في عام 1973 زار سليمان فرنجية الرياض مع النواب عبدالله الراسي وطوني فرنجية وناظم عكاري، استقبله الملك فيصل في خيمة تتسع لـ700 فرد ورقص مع أشقائه العرضة النجدية ترحيباً برئيس لبنان. في اليوم التالي وقف الأمير سلمان مع طبيبه عبدالله الراسي وطوني سليمان فرنجية فوق أعلى بناية في الرياض، سأل طوني زوج أخته عن موقع منزله القديم، عجز الراسي عن تحديد موقع بيته من علو، وهنا تدخل الأمير سلمان مشيراً إلى موقع المنزل، ثم التفت إلى عبدالله قائلاً: “كلما مررت من هناك أفكر فيك وفي أسرتك”.

في منتصف السبعينيات ألقى سليمان فرنجية خطاباً في الأمم المتحدة، وبعد فراغه من الكلام لاحظ غياب الوزير السعودي عمر السقاف الذي صرح خلال الوساطة الأميركية بين مصر وإسرائيل نهاية حرب أكتوبر: “نتمنى النجاح لكيسنجر، لكن ليس على حساب العرب”. في المساء أعلن الخبر، توفي عمر السقاف الساعة الخامسة عصراً في فندقه في ظروف غامضة ولم يكتشف الحراس جثته إلا في الساعة السابعة. أراد الرئيس الأميركي جيرالد فورد أن تقل الطائرة الرئاسية جثمان السقاف إلى المملكة، لكن الملك فيصل رفض وأرسل طائرة سعودية لاستعادة الجثمان، في الطريق إلى المطار لاحظت صونيا زوجة السقاف تصرخ: “الأميركيون قتلوا زوجي”.

مع بدء الحرب الأهلية، كادت الدولة اللبنانية أن تعجز عن إمداد النفط لشعبها، ذهب الوزير غسان تويني إلى المملكة، وكالعادة لم يرفض المسؤولون السعوديون طلباً للبنان، فتدفق النفط في أنابيب الدولة اللبنانية، وشعر سليمان فرنجية بامتنان كبير نحو الأمير سلمان الذي لعب دوراً كبيراً في إتمام العون.

تحمل صونيا على العهد الشهابي في لبنان، أي عهد الرئيسين فؤاد شهاب وامتداداته في عهد خلفه شارل حلو، فظائع جهاز المخابرات المعروف بالمكتب الثاني، أخبرها الأمير سلمان عن مضايقات المكتب الثاني للأمراء السعوديين الزائرين للبنان ترضية لمصر جمال عبدالناصر.

جوانب من تاريخ المملكة

تلك مقتطفات من مذكرات صونيا فرنجية الراسي “وطني دائماً على حق”، التي تزخر بقصص عن حكمة الملك سلمان وجوانب إنسانية مشرقة في شخصيته الراقية والعظيمة إضافة إلى سيرة بنائه لمدينة الرياض من العدم، لذلك استحق الكتاب هذه الاضاءة بمناسبة اليوم الوطني السعودي، ومن لطائف الكتاب أنه حين عاد الأمير سلطان بن سلمان من رحلته الفضائية (1985) أرسل بطاقة مصورة وموقعة إلى صونيا.

قدم لنا الكتاب جوانب خفية من تاريخ المملكة، كما قدم لنا صفحات منسية من تاريخ لبنان، سيدهش القارئ إتقان الأمير ماجد بن عبدالعزيز للهجة الزغرتاوية، هيام الأميرين نواف بن عبدالعزيز وسطام بن عبدالعزيز بالكبة الإهدنية، تفاصيل زواج الملك فيصل بالملكة عفت، علاقة الأخوة بين اللبنانيين والسعوديين وتطورها، وغير ذلك كثير في كتاب لا يُمَلّ على الرغم من انحيازاته الواضحة. ولعل السؤال الأهم بعد قراءة الكتاب يتناول الموقع السياسي للوزير سليمان فرنجية الحفيد مع إيران وميليشياتها على الرغم من التاريخ الجميل لأسرته في الرياض ومعها.

شارك المقال