ماذا بعد 4 أعوام على الانهيار التاريخي؟

سوليكا علاء الدين

إنفجر في 17 من تشرين الأول 2019، لغم أسوأ أزمة اقتصادية ونقدية ومالية في تاريخ لبنان الحديث، وطال لهيبه الجسد اللبناني مخلّفاً وراءه تشوهات وتصدعات في مختلف الأصعدة والقطاعات البنيوية. أربعة أعوام ولبنان المُنهك لا يزال غارقاً في دوامة أزمات لا تنتهي، بعد أن أدّت سبحة الانهيارات إلى سقوط دعائم الاقتصاد وتفكك مؤسسات الدولة وتلاشي قدرة اللبنانيين على الصمود. حتى اليوم وعلى الرغم من سوداوية المشهد وتعقيداته، لم تنجح القوى السياسية الحاكمة في إحراز أي تقدّم ملحوظ سواء على صعيد تنفيذ الاصلاحات المطلوبة أو عبر وضع خطة اقتصادية طارئة وإيجاد حلول انقاذية للحد من التدهور وإعادة الحياة إلى عجلة النمو الاقتصادي المتوقف.

ملامح الانهيار بدأت بالظهور منذ العام 2017، إلى أن انفجر الوضع في خريف الـ2019 مع بدء “ثورة تشرين” واقفال أبواب المصارف لفترة دامت ثلاثة أسابيع تخللها تحويل مبالغ هائلة وتهريبها إلى خارج لبنان ما أدّى إلى نقص في السيولة وشح في الدولار، ناهيك عن امتناع المصارف عن إعطاء المودعين أموالهم وفرضها قيوداً صارمة على السحوبات النقديّة، محددةً قيمة المبالغ التي يمكن للمواطنين سحبها من مدخراتهم بالدولار ليفقد بذلك القطاع المصرفي ثقة المودعين في الداخل والخارج.

مشوار التقهقر الاقتصادي استُمكل مع مسلسل تدهور العملة الوطنية التي تُعدّ أحد أبرز مؤشرات انهيار الاقتصاد اللبناني، بحيث فقدت الليرة أكثر من 98 في المئة من قيمتها بعد أن انخفض سعر صرفها في السوق السوداء من 1500 ليرة لبنانية للدولار الواحد قبل الأزمة إلى قرابة الـ140 ألف ليرة، قبل أن يتراجع ويستقر اليوم عند عتبة الـ90 ألف ليرة. هذا التراجع أدّى إلى تدمير القوة الشرائية وتردي الأوضاع المعيشية بصورة دراماتيكية، فضلاً عن ارتفاع معدلات التضخم وعدم قدرة المواطن على تأمين أبسط احتياجاته الأساسية.

الأزمة واصلت أيضاً استنزافها لاحتياطي مصرف لبنان مع استمرار الاعتماد على سياسة دعم السلع والمواد الأساسية التي استفاد منها حصراً التجار والمهربون والمحتكرون، إلى أن تراجعت قيمة الاحتياطات بالعملة الأجنبيّة – حسب بيانات “المركزي” – إلى 8.498 مليارات دولار أميركي في نهاية آب 2023، مقارنة بـ 36.39 مليار دولار أميركي في نهاية تموز 2019، أي قبل أشهر قليلة من اندلاع شرارة الأزمة في لبنان، بالتوازي مع خسائر مالية فادحة قدّرت بأكثر من 72 مليار دولار (أموال المودعين) أي ما يعادل أكثر من ثلاثة أضعاف إجمالي الناتج المحلي في العام 2021. وفي ظل شح العملات الصعبة وانخفاض احتياطي العملات الأجنبية إلى مستويات قياسية متدنية، حصل لبنان في العام 2021 على حصته من حقوق السحب الخاصة به من صندوق النقد الدولي والبالغة آنذاك 1.135 مليار دولار، ولكن لم يتبقّ منها اليوم سوى 76 مليون دولار فقط.

كما ساهم التراجع السريع في قيمة الليرة في ارتفاع أسعار المواد الغذائية، بحيث أشار البنك الدولي إلى أن لبنان سجل ثاني أعلى معدل تضخم إسمي لأسعار المواد الغذائية في العالم خلال الفترة الممتدة من آب 2022 إلى آب 2023 (274 في المئة تغير سنوي في مؤشر أسعار المستهلكين للأغذية)، متخلّفاً عن فنزويلا (403 في المئة)، تليها الأرجنتين (134 في المئة) وتركيا (74 المئة). أمّا بالقيمة الحقيقية، فقد سجل لبنان أعلى تغير سنوي في تضخم أسعار المواد الغذائية حيث بلغ 44 المئة، تليه مصر (34 المئة)، سيراليون (15 المئة)، تركيا (15 المئة) ورواندا (13 المئة). الغلاء الفاحش للأسعار أدى إلى تفاقم معدّلات التضخم وتسجيلها نسباً خطيرة، فبحسب الأرقام الصادرة عن إدارة الاحصاء المركزي في لبنان، فإن نسب التضخّم ارتفعت من 2.9 في المئة في العام 2019 الى 171.2 في المئة في 2022. كما ارتفعت بصورة جنونية أسعار الوقود والغاز والكهرباء والخبز والمياه والاتصالات والانترنت، وأصبح الكثير من الخدمات الأساسية بمثابة سلع كمالية لا يُمكن الحصول عليها، وغزت “الدولرة” مختلف القطاعات في لبنان، غير أنها لم تنجح في حل معضلة ارتفاع الأسعار فحتى التسعير بالدولار شهد ارتفاعات متواصلة وغير منطقية.

التضخم ألقى بثقله أيضاً على القدرة الشرائية للأجور والرواتب، فقبل الغرق في الأزمة الاقتصادية بلغ الحد الأدنى للأجور 675 ألف ليرة، أي ما يعادل 450 دولاراً. اليوم، وعلى الرغم من إقرار زيادة الرواتب إلى حدود التسعة ملايين ليرة، إلا أنّ قيمتها تُعادل فقط ما يُساوي 90 دولاراً، أي بانخفاض حاد وصل إلى 360 دولاراً وبنسبة 80 في المئة.

أما عن الفقر في لبنان فحدّث بلا حرج، فبحسب التقارير الأممية والدولية يعيش نحو 80 في المئة من اللبنانيين في فقر متعدد الأبعاد. ونتيجة لتمادي الأزمة، وضع برنامج الغذاء العالمي ومنظّمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتّحدة، لبنان على لائحة البلدان ذات النقاط الساخنة للجوع في العام 2023، والتي من المتوقع أن تشهد تدهوراً قياسياً على مستوى انعدام الأمن الغذائي. فالتقديرات أشارت إلى أنّ أكثر من 1.3 مليون مواطن لبناني، أي 35.8 في المئة من مجموع السكان، يعانون من انعدام الأمن الغذائي، بينهم 190 ألف شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد.

وفي ما يتعلق بالبطالة، أظهرت الأرقام الرسمية الصادرة عن مديرية الاحصاء المركزي ومنظمة العمل الدولية في أيار 2022، تسجيل ارتفاع في معدل البطالة بين العام 2018 وأوائل العام 2022 من 11.4 في المئة إلى 29.6 في المئة، من بينهم 47.8 في المئة من الشباب والشابات، الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً. في المقابل، تراجعت نسبة التوظيف من إجمالي عدد السكان 43.3 في المئة في العام 2019 إلى 30.6 في المئة في العام 2022 مع قيام الكثير من المؤسسات والشركات بإعادة هيكليتها أو إقفال أبوابها.

لم يسلم الناتج المحلي اللبناني من براثن الأزمة الاقتصادية التي أدّت إلى تهاوي قيمته الاجمالية، بحيث انخفضت قيمة إجمالي الناتج المحلي للبنان من حوالي 55 مليار دولار عام 2018 إلى ما يُقدّر بنحو 33 مليار دولار عام 2020، و23.3 مليار دولار عام 2021 و21.8 مليار دولار عام 2022، ليسجّل بذلك انكماشاً بنسبة 58.1 في المئة، وهو الإنكماش الأشد في قائمة اقتصادات نحو 193 بلداً في العالم. ومع توقع استمرار زيادة الاستهلاك الخاص، وإن كان بمعدلات غير مرتفعة، والتراجع في عجز الحساب الجاري، من المتوقع وفق تقرير المرصد الاقتصادي للبنان أن ينكمش إجمالي الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 0.5 في المئة إضافية في العام 2023. بدوره، وصل حجم الدين العام الى أكثر من 175 في المئة من الناتج الإجمالي، ليكون بذلك من أعلى معدلات الديون في العالم.

كل هذه المآسي مُجتمعة أدّت إلى تنامي الاقتصاد النقدي المدولر والمقدّر بحوالي 9.9 مليارات دولار عام 2022 أو 45.7 في المئة، أي نحو نصف حجم الاقتصاد اللبناني، والذي بات يُشكّل عائقاً كبيراً أمام تحقيق التعافي الاقتصادي، فضلاً عن أنّه يهدّد بالمساس بفاعلية السياسة المالية والسياسة النقدية، ويزيد من إمكان غسل الأموال وتبييضها، إضافة إلى زيادة النشاط الاقتصادي غير الرسمي، والتشجيع على زيادة التهرب الضريبي.

تأتي الذكرى الرابعة لأزمة لبنان الاقتصادية في وقت يترقّب فيه اللبنانيون بحذر وقلق تداعيات عمليّة “طوفان الأقصى”، بحيث تزداد مخاوفهم من امكان توسّع رقعة الصراع وانزلاق لبنان إلى دائرة الحرب وما تحمل في طياتها من انعكاسات وخيمة على الوضع الاقتصادي الهش في تكرار من شأنه أن يكون أشد خطورة وقساوة لسيناريو حرب تموز 2006. فعلى مدار أربع سنوات، شكّلت الأزمة ضربة قاضية للاقتصاد اللبناني وتهديداً صريحاً لوجود لبنان ومستقبله والذي بات يحتاج إلى صدمة إصلاحية عاجلة تُنقذه من فساد طبقته الحاكمة واستهتارها وتوقظه من كوابيس أزماته وتُشرّع له أبواب النهوض والتعافي والاستقرار الاقتصادي.

شارك المقال