اقتصادات الحروب… كم كلفت لبنان؟

هدى علاء الدين

تعرض لبنان للعديد من الحروب على مدى عقود، ما تسبب بخسائر فادحة للاقتصاد وأدت إلى هدر المليارات من الدولارات. انعكاسات هذه الحروب تجلّت في انخفاض الناتج المحلي الاجمالي، وتدهور البنية التحتية، وازدياد عجز الموازنة، وارتفاع الدين العام، وتراجع الاستثمارات الأجنبية، وتدني مستويات المعيشة، وارتفاع معدلات التضخم والفقر والبطالة، ليكون بذلك الاقتصاد الوطني بقطاعاته كافة الخاسر الأكبر في حروب كان لبنان فيها الضحية دوماً، أبرزها الحرب الأهلية وحرب تموز والنزوح السوري جراء حرب سوريا.

الحرب الأهلية اللبنانية (1990-1975)

في 13 نيسان عام 1975، دخل لبنان في دوامة لا نهاية لها من العنف والدمار. وعلى مدى 15 عاماً قتل اللبنانيون بعضهم بعضاً فكانت النتيجة أكثر من 300 ألف شخص بين قتيل وجريح، وتهجير ما يقارب المليون وهجرة نصف مليون آخر. انتهت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990 بتوقيع اتفاق الطائف الذي أدى إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية ووضع حد للصراعات الطائفية في البلاد.

مع اندلاع الحرب انقطع مسار النمو الطبيعي للاقتصاد اللبناني، وكانت لسلسلة من العوامل الداخلية والخارجية تأثيرات كبيرة على الدخل الوطني والنقد، وأدت إلى موجة تضخم تركت انعكاسات سلبية على المستويين الاقتصادي والاجتماعي. كما توقف العديد من العمال عن متابعة عملهم، وخرج قسم من القوى العاملة من دورة الانتاج في كل القطاعات، إضافة إلى تراجع دور لبنان التجاري والخدمي وانسحاب مساحات واسعة من الانتاج الزراعي.

وفي غياب تقديرات واضحة ودقيقة للخسارة اللاحقة للناتج الوطني في تلك الحقبة، تظهر تقديرات مصرف لبنان وغرفة الصناعة والتجارة في بيروت تراجعاً في الناتج المحلي بنسبة 25 في المئة بين العامين 1975 و1982، وانخفاضاً في قيمة الصادرات الصناعية بأكثر من 30 في المئة. ارتفع عجز الموازنة من 21.8 في المئة عام 1975 إلى 86 في المئة عام 1978 بسبب تراجع عملية تحصيل الضرائب مقابل استمرار الدولة في أداء واجباتها، خصوصاً في ما يتعلق بأجور موظفي القطاع العام، فيما سجلت إيرادات الدولة تراجعاً في مقابل زيادة الانفاق، ولا سيما الإنفاق العسكري من أجل شراء معدات للجيش اللبناني، ما أدى إلى إضعاف احتياطي البنك المركزي من 3 مليارات دولار عام 1982 إلى 1440 مليون دولار عام 1985.

كما انهار قطاع الخدمات ودمرت البنية التحتية وتراجعت معظم التقديمات الاجتماعية، وأصيب قطاع السياحة الذي كان يشكل 20 في المئة من الدخل القومي بالشلل. كذلك خسر لبنان معظم مميزاته التفاضلية وموارده البشرية، وارتفعت معدلات البطالة إلى حد أنه بحلول العام 1990، لم يتجاوز معدل دخل الفرد الحقيقي ثلث ما كان عليه في العام 1975. وكان لهذه الانهيارات أثر سلبي على سعر صرف الليرة الذي بلغ عام 1992 نحو 2800 ليرة للدولار. وتجاوز معدل التضخم 192 في المئة، ووصلت أسعار الفائدة على سندات الخزينة إلى 34 بالمئة. أما الدين العام فقد ارتفع إلى الناتج المحلي الاجمالي من 2.4 في المئة عام 1974 إلى 111 في المئة عام 1982.

وقدّر البنك الدولي إجمالي الأضرار المادية التي لحقت بلبنان والخسائر الرأسمالية المباشرة بنحو 25 مليار دولار، أي أكثر من ثمانية أضعاف الناتج القومي الاجمالي.

حرب تموز 2006

بدأت في 12 تموز واستمرت حتى 14 آب 2006، أي 33 يوماً بين لبنان وإسرائيل وأدت إلى مقتل أكثر من 1200 شخص وإصابة أكثر من 4000 آخرين. وانتهت بالتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار.

وبحسب تقرير وزارة المالية الصادر بعد شهرين من حرب تموز 2006، فإن حجم خسائر الاقتصاد اللبناني والمالية العامة بلغ نحو 2419 مليار ليرة (1.6 مليار دولار)، من دون الأخذ في الاعتبار عند حساب النفقات التكلفة الاجمالية من الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية وما تحملته الخزينة من نفقات إعادة الأعمار. وأشار التقرير إلى أن الحكومة اللبنانية، خلال السنوات التي سبقت الحرب، نجحت، بعد كل الجهود التي بذلتها، في تعزيز الاستقرار المالي والنقدي، وحققت فائضاً أولياً إجمالياً خلال النصف الأول من العام 2006، مسجلاً 660 مليون دولار، أي بزيادة ما يتجاوز أربعة أضعاف إجمالي الفائض الأولي الذي تحقق خلال النصف الأول من العام 2005.

وكانت خسائر حرب تموز ضخمة على الاقتصاد اللبناني والمالية العامة، بحيث تجاوزت قيمتها 7 مليارات دولار، منها 3.6 مليارات دولار تكاليف مباشرة بسبب تدمير البنى التحتية من طرق وكهرباء وجسور، و1.6 مليار دولار كانت خسائر في المالية العامة من حيث الايرادات والنفقات، وما تبقى من خسائر طالت الناتج المحلي وصلت الى 2,4 مليار دولار.

أما الاستثمارات الأجنبية التي وصلت أرباحها حينها إلى 4.8 مليارات دولار، فكانت الأكثر تضرراً، خصوصاً أن تداعيات تلك الحرب غيّرت نفسية المستثمر، من مستثمر في قلب العملية الاقتصادية إلى مستثمر يسعى الى الربح المباشر. وعلى الرغم من أن القروض المستخدمة لاعادة الاعمار حصل عليها لبنان بفوائد منخفضة للغاية، إلا أن ذلك ساهم بصورة كبيرة في ارتفاع قيمة الدين العام الذي شهد اعتماد منهجية الاعتمادات من خارج الموازنة بسبب صعوبة التصويت عليها. وأدت هذه السابقة التاريخية إلى تدمير المالية العامة وتدهور معظم المؤشرات الاقتصادية، بحيث أوصلت لبنان إلى 41 مليار دولار من الديون، ليرتفع الدين العام إلى 183 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي مسجلاً 41 مليار دولار، وانخفض النمو إلى 1.6 في المئة، فضلاً عن تسجيل تكلفة خدمة الدين العام 3.02 في المئة في نهاية العام 2006، فيما بلغت الخسائر المتبقية على الناتج المحلي الاجمالي 2.4 مليار دولار.

الحرب السورية والنزوح إلى لبنان 2011

تأثر لبنان بصورة كبيرة بالحرب السورية، التي اندلعت في العام 2011، وتسببت بتدفق ملايين النازحين السوريين إلى لبنان والبالغ عددهم حوالي 1.5 مليون شخص، ما يمثل حوالي ثلث السكان. وقد أدى هذا النزوح إلى ضغوط كبيرة على البنية التحتية والاقتصاد الوطني، بما في ذلك ارتفاع أسعار السلع الأساسية وزيادة معدلات البطالة. وقدّر البنك الدولي خسائر لبنان من تدّفق النازحين بنحو 7.5 مليارات دولار.

خفض النزوح السوري إلى لبنان معدل النموّ الحقيقي في الناتج المحلي بنحو 2.9 نقطة مئوية لكل عام، ما أدى إلى خسائر كبيرة في الرواتب والاستثمار، ودفع حوالي 170 ألف لبناني إلى ما تحت خط الفقر، فضلاً عن وجود مليون يعيشون حالياً دونه، في حين ارتفعت البطالة إلى ما يزيد على 20 في المئة. كذلك تقلصت قدرة الحكومة على تحصيل الواردات بصورة ملحوظة بقيمة 1.5 مليار دولار، وارتفع الانفاق الحكومي بـ 1,1 مليار دولار من جراء زيادة الطلب الملحوظ على الخدمات العامة. وتعرضت المالية العامة لضغط شديد، بحيث قُدر اتساع عجز الموازنة بنحو 2,6 مليار دولار خلال الفترة الممتدة من 2012 إلى 2014، بعد نصف عقد من النمو المطرد. ويُقدر الأثر المالي للأزمة السورية على قطاعات الصحة، والتعليم، وشبكات الأمان الاجتماعي ما بين 308 و340 مليون دولار ويستلزم الأمر توافر ما بين 1.4 و1.6 مليار دولار (أي بين 3 و3,4 في المئة من إجمالي الناتج المحلي) لتحقيق الاستقرار.

وبحسب التقرير الذي أجراه البنك الدولي بالتعاون مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، تُقدر الكلفة المالية على الاقتصاد اللبناني بـ 1,7 مليون دولار سنوياً تتضمن مساهمة الدولة في الطبابة، الكهرباء، الصرف الصحي، استهلاك البنى التحتية، أمّا الثانية فهي خسائر على الاقتصاد وعلى خزينة الدولة تُقدر بما لا يقل عن 40 مليار دولار منذ العام 2011 إلى اليوم، في حين أن المساعدات الدولية للبنان بلغت حوالي 10 مليارات دولار وغطت جزءاً بسيطاً من الخسائر المباشرة.

أثقلت الحروب كاهل لبنان الاقتصادي محملة إياه خسائر مباشرة فاقت قيمتها الـ 50 مليار دولار. فالحرب الأهلية، التي استمرت 15 عاماً تسببت بخسائر تقدر بنحو 25 مليار دولار. كما تسببت حرب تموز 2006، بتكلفة إضافية تقدر بحوالي 7 مليارات دولار نتيجة للتدمير الذي لحق بالبنية التحتية والمرافق العامة. أما تكلفة استقبال اللاجئين السوريين الذين نزحوا إلى لبنان فقد زادت عبئاً آخر على الاقتصاد اللبناني بأكثر من 20 مليار دولار بين العامين 2011 و2021، لتكون بذلك الحروب لعنة لبنان الاقتصادية.

شارك المقال